صورتي
الاسم:
الموقع: Al Ain, Abu Dhabi, United Arab Emirates

السبت، أكتوبر 28، 2006

بدوي الجبل وأسباب الخلود

بدوي الجبل وأسباب الخلود

د. عبد الرحمن دركزللي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ينطوي شعر بدوي الجبل على ثلاث خصال تؤهله للتربع على عرش الشعر, وأول هذه الخصال : الوطنية , فنحن لا نعلم أن هنالك شاعرا نذر نفســــه للعروبة والوطن , وأخلص لهما إخلاصه:

ويا رب درب في الحياة ســـلكته وما حدت عنه لو عرفت المغيبا
ولي وطن أكبرته عـــن ملامـــة وأغليه أن يدعى على الذنب مذنبا
فمن حقه أن أحمل الجرح راضيا ومن حقـــــه ألا ألـــــوم وأعتبــا

وتتجلى وطنيته في أوضح مظاهرها حين يعرب عن عشقه للشام , أرض البطولات , وعرين الأسود من بني أمية , وذلك من خلال قصيدته العصماء التي ألقاها في قاعة " المجمع العلمي"
بدمشق سنة 1924 , وكان حينئذ في ميعة الصبا وعنفوان الشباب :
لقد زعموا اني بجلق هائـــم أجل والهوى أني بجلق هائم
وأصفيت أبناء الشآم مودتي صغيرا وما نيطت علي التمائم
اذا رضيت عني صناديد جلق فأهون شيء ما تقول اللوائـــم

وسبب هذا الحب يعود إلى كون الشام شهدت في العصور الغوابر مجد العرب , فهي أم العواصم , وعرين الضراغم , وموطن النفر الغر الميامين من بني أمية :
بلى هذه أم العواصــــــــــــــم جلق وهذي ليوث الغوطتين الضراغــــم
هنا عرش أقمـــــار العلى من أمية هنا ارتكزت ســـمر العوالي اللهاذم
هنا ابن أبي ســـــفيان أشرق تاجه تؤيده البيض الرقــــــــاق الصوارم
إذا ظل مجد العرب في الشام سالما فمجد بني قحطان في الشرق سالم

ويبلغ حبه للشام مداه وغايته ومنتهاه , حين يسمو بها وجدانه إلى مكانة الحبيبة التي يحافظ على عهدها , ويصون هواها , ويهيم بها هيام قيس بلبناه :
لئن خان عهد الغوطتين عصابة رأوا بيعــــــهم ربحا وألفيتـه غبــــــنا
ففي الجبل النائـــي لعصبة جلـق من القوم خدن لم يخن في الهوى خدنا


وفي سبيل هذا الهوى المتأجج يلاقي الشـــاعر العنت , فيتعرض للبطش والإرهاب , تروي الأخبار أنه كان متواريا عن أنظار الفرنســــيين الذين كانوا عنه يبحثون بسبب ما كان له من علاقة بالثائر الكبير الشيخ " صالح العلي " فلما اعتقلوه أدموا قدميه ضربا ومعصميه تكبيلا , واقتـــــــادوه إلى حمص أسيرا ثم إلى بيروت حيث لبث في قلعتها سجينا أمدا من الزمن.على أنه لم يضعف ولم يهن, بل انضوى تحت جناح" الكتلة الوطنية " وكانت فئة من المناضلين , فصار من أبرز عناصـــرها , وغدا لسانها الناطق المعبر , لكن ظروف العنف والظلم اضطرته إلى الفرار , فيمم وجهه شـــــــطر العراق , ليتابع مهمته في نشر الثورة , وإضرام نارها على الغاصبين ,على أن الأقـــــدار ردته من جديد إلى الشام , فاعتقله الفرنسيون ثانية، وزجوا به في سجن "كسب" على الحدود الســـــورية التركية.و بعد إطلاق سراحه انتخب , بالتزكية الجماعية , نائبا عن اللاذقية , ثم استقلت ســـورية وتحقق الجلاء فشغل الوزارة , وانغمس في أتون الحياة السياسية المضطربة ولكن لحقه من جراء ذلك خصام وتهاتر وتجريح , فاضطر إلى الرحيل عن البلاد والتشرد في عواصم أوربا .


والحق أن بدوي الجبل كان يتسامى إلى الأفق القومي الرحب ليرى الوطن من خلال منظار أوسع , وهو منظار العروبة , لذلك نسمعه يحلم بعودة الفارس العربي وانبعاثه من مرقده :

ولا بد من يوم أغــــــــر محجــــــــل تصير الجبال الراســـيات به عهنـــــا
يصافح فيه قائم الســـــــــــيف خالـــد فيضرب حتى يكسر السيف أو يحنى
وكم في بطون اليعربيـــــــات , خالد سيرجع ظهر الأرض من حنق بطنــا!..

ثم يستثير النخوة العربية , وعزائم العرب الفاترة , إلى النضال والكفاح من خلال بعثه ذكريات الماضي المجيد المضمخ بعطر البطولات :

قف على اليرموك واخشع جاثيا وتيمم من صعيد القادســـــــــية
ههنا مثوى الصناديــــــــد الألى قد لووا قســــــــرا عنان الجاهلية
دوخوا الروم وثلوا عرشــــــهم وطووا حمر البنود الفارســــــية
وقضوا بين العوالي والظبـــــــا هكذا تقضي الأســــود العربيـــــة

وكأنه يقول للناس هكذا كان أجدادكم في العهود الغوابر , فما أحراكم واجدركم بأن تكونوا على شاكلتهم , وهنا يحرض على الثأر بشكل سافر صريح:

مالي أرى الشم في لبنان مغضية تطامنت للرزايا شــــــــــم لبنانا
لا صيد غسان والهيجاء ضارية على السروج ولا أقيال مروانا
دم بتونس لم يثــــــــــــأر له ودم بالقدس هان على الأيام لا هانا
وما لمحت ســـــياط الظلم دامية إلا عرفت عليها لحم أســـــرانا
لو يعلم البدر في شــعبان محنتنا لما أطل حياء بدر شــعبانا

كان يؤلمه أشد الألم أن يرى العرب مزقا وأشلاء , يرسفون في الأغلال , ويتجرعون كؤوس الذل على أيدي الغاصبين .. ويتساءل عن سبب ضياعهم , وهمود نارهم , واندثار عزهم , فلا يعرف لذلك كله سببا :
من اطفأ الجذوة الكبرى بأنفـــــــسنا أدهرنا حال أم حالت ســــجايانا؟
هي الكؤوس .. ولكن أين نشوتها ؟ وهي الحروف ولكن أين معنانا ؟!..


وهو يرى في أبطال العرب المعاصرين حفداء لأولئك الأجداد , وأشبالا لأولئك الليوث , واستمرارا لهم , لذلك يقرنهم بهم , ويشدهم إليهم , قال يرثي الزعيم إبراهيم هنانو :

نماك وسيف الدولة الدار والهوى وغناكما أندى ملاحمه الشــــــــعر
وأقسم بالبيت المحرم ما احتمــــت بأمنع من كفيكما البيض والسمر

و يصل حبه للعروبة إلى مرتبة العبادة والتقديس , فيجد في العروبة كعبة وقبلة وعقيدة يعتز بها . وعنده ان تعدد الأقطار لا ينبغي أن يقلل من قوتها , لأن هذه الأقطار كالأزاهير في بستان واحد هو بستان العروبة .
بيت العروبة حين أسجد قبلتي لا طوره قصدي ولا عرفاته
من بعض أسماء العروبة أرزه يوم الفخار ونيله وفراته
كالروض ملتف الخمائل ناضرا ما ضره لو نوعت زهراته


والشاعر حريص على ضم النشر , ولم الشعث , وتوحيد الصف , ونبذ الفرقة , لذلك يجزع الجزع كله حين يرى تهاتر العرب وانقسامهم وتصدعهم :
واضيعة الوطن الصغير تعددت أديانه وعروشه ولغاته
وحين يسرح نظره في الأقطار العربية يجد أنها جميعا على اختلاف أسمائها وأعلامها ولهجاتها ودياناتها أمة واحدة , لما لها من أصل واحد ولغة واحدة , هي لغة الضاد الخالدة:

كل الربوع ربوع العرب لي وطن ما بين مبتعد منها ومقتــــــــرب
إن لم تكن وحدة الانســاب جامعة فإننا جمعتــــــــــــنا وحدة الأدب
للضاد ترجع أنســـــــــــــاب مفرقة فالضاد أفضل أم بــــــرة وأب
تفنى العصور, وتبقى الضاد خالد شجى بحلق غريب الدار مغتصب



أما الخصلة الثانية فهي الأنفة وعزة النفس التي فطر الرجل عليها .. كان بدوي الجبل يحمل بين جوانحه نفسا أبية زهدت في مسرات الدنيا ومباهج الحياة و أشرأبت إلى العلياء، وكان يشعر بأن ما انطوت عليه ضلوعه من الحمية والأنفة والحب السمح تغنيه عن متاع الدنيا , لذلك مضى يجهر بالحق الصراح , غير مكترث بالموت , ولا مبال بالسجون خصوصا , إذا كان الأمر يمس كرامة الوطن وينال من عزته:
أطل على الدنيا عزيـــــــــــــزا أضمني إليه ظلام الســــــجن أم ضمني القبر
وما حاجتي للأفق ضحيان مشــــــــــــرقا ونفسي الضحى والأفق والشمس والبدر





وشاعرنا يستمد قوته لا من جاه يظله , أو نسب يفتخر به , أو مال يدخره , أو سلطان يؤيده , وإنما من حب عمر قلبه , وعاطفة غمرت مشاعره , ونزوع إلى الخير سرى في دمه حتى منعه من أن يحمل حقدا أو إصرا على ألد أعدائه وخصومه :
قلبي الذي نضر الدنيا بنعمته رأى من الحقد أقساه وما حقدا
إني لأرحم خصمي حين يشتمني وكنت أكبره لو عف منتقدا
قرت عيون العدى والأصفياء معا فلست أملك إلا العطر والشهدا

وهو على دماثة خلقه , ونبل نفسه , وسمو طبعه، شديد الحذر من أن تهان كرامته أو تمس بسوء:
كرامتي الحجر الصوان ما ازدردت إلا لتهشم أنياب الذي ازدردا
كغابة الليث إن مر العدو بها رأى الزماجر والأظفار واللبدا

وقد يبلغ الصراع الناشب في أعماقه قمة التأزم والاحتدام حين ينهض عقله مسوغا له الثأر والانتقام , في مواجهة قلبه الذي يدعوه إلى الصفح والغفران , ويهم بالاساءة ولكن قلبه الكبير يصب ماء الحب على نار الحقد، فاذا هي خابية هامدة.

ويا رب قلبي , ماعلمت , محبة وعطر ووهج من سناك صميم
ولا فوق نعماء المحبة جنة ولا فوق أحقاد النفوس جحيم



وبدوي الجبل يرى أن مصدر شقائه وسبب الحاسدين له , انما هو ما آتاه الله إياه من عبقرية . ويعيد هذا إلى الأذهان ما كان يعاني منه المتنبي الذي كان يحسد على ما كان يشكو منه:

وللمجد أعباء ولكنها منـــــــــى وللمكرمات الغاليــــــات هموم
وخاصمني من كنت أرجو وفاءه وللشمس بين النيرات خصوم

ويبلغ اعتزازه بشعره مبلغا بعيدا لم نعهده إلا عند أبي الطيب :

كل مجد يفنى ويبقى لشعري شرف باذخ ومجد أثيل




حتى انه يرى في شعره ذاته ووجوده وحياته بكل ما تحمل الكلمات من معنى , إن شعره شرفه ولذلك يحرسه ويصونه كما يصان العرض :
كبريائي فوق النجوم ولولاها لما كنت بالنجوم خليـــــــــــــقا
جل شعري أقيه بالروح من كل هوان والشعر , كالعرض , يوقى

ومن أعظم منابع العزة والكبرياء لدى الشاعر اعتصامه بالحق, لذلك تحدى الطغاة واثقا أن ظلمهم إلى زوال مهما طال عليه الأمد:
لم أهادن ظلما وتدري الليالي في غد أينا هو المدحــــــــور



***
واما الخصلة الثالثة فهي لغته الشعرية الساحرة .. وهذه خصلة بارزة لفتت إليه الأنظـــــر وجذبت نحوه القلوب , ولا أدل على ذلك من شهادة الشيخ عبد القادر المغربي فيه : ( إنه الشــــــاعر الذي تمرد على ناموس التدرج ) , وعنه قال الأستاذ سليم الجندي : سيكون شاعر الشيوخ غدا كما كان شاعر الشباب اليوم . ولا غرو في ذلك فوالد الشاعر هو الشيخ سليمان الأحمد أحد أعضاء المجمع , وكان أديبا وفقيها وعالما , وكان بيته مثابة لرواد الفضل , يرتل فيه القرآن ويجود الشعر.

وقد تولى الأستاذ أحمد الجندي مهمة وصف شعره فوصفه أدق وصف حين قال : فاللفظة مطمئنة في مكانها , وهي تؤدي معناها الخاص على الوجه الأكمل , وتؤدي معنى أخر ينتج عن مجاورتها للفظة أخرى قريبة منها , وهذه الألفاظ منتقاة من الناحية اللغوية , ولن يضطرك البــــــــدوي إلى مراجعة المعجم , فقد تثبت من ألفاظه بحيث لايمكنه اللجوء إلى لفظة مشكوك في صحتها .

على أن بدوي الجبل لم يكن منفردا بهذه الخصائص , فالفصاحة والعناية باللغة كانت من سمات الشعر السوري في تلك الفترة , ولكنه فاق أقرانه , وبذهم بديــباجته العربية الأصيلة , وعبارته المصقولة , وألفاظه الجزلة ،ولا عجب فالشاعر حفظ ووعى شعر الفحول القدماء من أمثـــــال البحتري وأبي تمام والمتنبي والمعري والشريف الرضي.


وعندي أن أروع شيء في لغته الشعرية إنما هو متانة سبكه , فلا لفظة قلقة , ولا كلمة نابية ولا حشــــــو ولا فضول , وإنما كلام مصبوب في قوالب الذهب، وإذا كنت ترتاب في هذا الكلام فدونك قصيدته في رثاء سعد الله الجابري :

سأل الصبح عن أخيه المفدى!.. أيها الصبح لن تشاهد سعدا
غيب الدهر من ســـــيوف معد مشــرفيا حمى وزان معدا
من كســــــــعد إذا الملاحم جنت وتلقى حد من الهول حدا ؟!
هتكوا حرمة العريـــــن فهاجوا أســـــدا دامي البراثن وردا
حشدوا جندهم وأقبل ســـــــعد يحشد البأس والعقيدة حشدا

أو قصيدته في رثاء الزعيم الخالد إبراهيم هنانو :

صلى الإله على قبــــــــر يطوف به كبيت مكة , من حجوا ومن قصدوا
أغفى " أبو طارق " بعد السهاد به وخلف الهم والبلوى لمن ســــهدوا
ضاو من السقم ضجت في شــمائله عواصف الحق , والأمواج والزبد
إذا أثيــــــــــــــر نضا عنه مواجعه كما تفلت من أشراكه الأســــــــــد
داء ملــــح ونفس لا تــــــذل لـــــه حرب تكافـــــــأ فيها البأس والعدد

أرأيت الي ما في معانيه من جلال وشرف , وإلى ألفاظه من جزالة وفخامة , فضلا عن سلاسة شعره وعفوية تعبيره؟!..


ولشعر " بدوي الجبل " من ضروب الموسيقى ألوان وألوان ... ويا لهــــــا من أذن مرهفة ترنمت برنين الحروف , وانتشت من جرس الألفاظ. إن وقع ألفاظه على الأذن لعجيب غريب كأنه السحر :
وزار طيفك أجفاني فعطـــــــــرها يا للطيوف الغريرات المعاطير
طيوبها في زيارات الرؤى نزلت من مقلتي على أصفى القوارير
كان همســــــك في رياه وشوشة دار النســـيم بها بين الأزاهير
تندى البراءة فيه فهو منســـكب من لغو طفل ومن تغريد عصفور
رشفت صــــوتك في قلبي معتقة لم تعتصر , وضياء غير منظور
لو كنت في جنة الفردوس واحدة من حــــــورها لتجلى الله للحور

لقد استطاع الشـــــــــــاعر بإحساسه المرهف وذوقه الرفيع أن يلتقط أروع الألفاظ وأن يختار أبلغ المفردات للتعبير عما يجول في خاطره , وعبارته عربية أصيلة كأنها في القوة والأســــــــــر شعر الفحول , وفضلا عما تقدم فقد سخر كل ما قدر عليه من فنون البديع ببراعة وبساطة . فجاء شعره غاية في الروعة وآية في الإعجاز:
شقراء يا لون حسن محبب مستبد
ويا جمالا غريبــــا على ظباء معد
لا رسم ليلاي فيـه ولا ملامح هندي
يا سكرة بعد صحو وفتنة بعد رشـــــد
الحب لا حكم شورى لكنه حكــــــم فرد

وصفوة القول : أن شاعرا اجتمعت له هذه الخصال والخلال لجدير بالإجلال والإكبار وأن يعد من نخبة الشعراء العرب المعاصرين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع

الجندي , أحمد , " شعراء سورية " بيروت 1965
الدقاق , عمر " فنون الأدب المعاصر في سورية " حلب 1971
الدهان ، سامي " الشعراء والأعلام في سورية " , بيروت 1986.
الكيالي، سامي " الأدب العربي المعاصر في سورية " القاهرة 1968.
الكيالي سامي " الأدب والقومية في سورية " القاهرة 1969.
" ديوان بدوي الجبل " تقديم أكرم زعيتر , بيروت 1978.