صورتي
الاسم:
الموقع: Al Ain, Abu Dhabi, United Arab Emirates

السبت، أكتوبر 28، 2006

المتنبي بين العبقرية والجنون

بسم الله الرحمن الرحيم

المتنبي بين العبقرية والجنون

د. عبد الرحمن دركزللي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ما اطلع امرؤ على أدب المتنبي إلا أقر له بالعبقرية واعترف له بالنبوغ، أما سر عبقريته ونبوغه فيرجع إلى عدة خصال : الأولى أن المتنبي كان رجلا مرهف الإحســـاس عميق التجربة؛ لذلك انطوى شعره على خلاصة مركزة للتجربة الإنسانية، ولسـنا نجانب الحق إذا قلنا إن الحكمة التى انطوى عليها شعره تؤهله للتربع على عرش الخلود، شأنه شأن شيكسبير عند الإنكليز ، أو غوته عند الألمان، هذا إن لم يكن متفوقا عليهما، وحسبنا دليلا على ما نقول هذه اللآلئ التي ننثرها على مسامع الحاضرين :

ــ إذا أنت أكرمت الكريـــم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيــــم تمردا
ــ ذو العقل يشقى في النعيم بعفله وأخو الجهالة في الشــقاوة ينعم
ــ وإذا كانت النفوس كبـــــــــارا تعبت في مرادها الأجســــــــام
ــ وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ومن لك بالحر الذي يحفظ اليــدا
ــ لولا المشقة ســـاد الناس كلهم الجود يفقـر والإقــــــــدام قتــال
ــ واحتمال الأذى ورؤية جانيــ ـه غذاء تضوى به الأجســـــــام
ــ وللنفس أخلاق تدل على الفتى أكان ســــخاء ما أتى أم تسـاخيــا

وأما الخصلة الثانية فهي أن المتنبي سبق غيره من الشعراء في التعبير عن الشعور القومي، إذ كان عربيا أصيلا شـــــديد الاعتزاز بعروبته، ينفـر من كل ما هو أعجمي، ويتطلع إلى سيادة العنصر العربي، وحسبنا دليلا على ذلك أنه رأى أمته مفككة ممزقة يتحكم بها الأعاجم، فقال:
وإنما الناس بالملوك ، وما تفلـح عرب ملوكها عجــم
لا أدب عندهم ولا حســب ولا عهـود لهم ولا ذمـــــم
وأنت إذا تفرست البيتين، وتدبرت المعنى الذي انطويا عليه رأيت فيهما احتقارا للعجمة ودعوة صريحة إلى الثورة والتمرد.


أما الخصلة الثالثة فهي أنه دعا ــ في شعره ــ إلى المثل العليا ، وحض على مكارم الأخلاق، في زمن انحطت فيه الأخلاق، وتدهورت فيه القيم. وإليكم بعض الأمثلة مصداقا لما نقول:

ـ ذل من يغبـــط الذليــــــــل بعيش رب عيش أخف منــــه الحمــــام
ـ عش عزيزا أو مت وأنت كريــم بيـن طعن القنــــا وخفــــق البنـــود
ـ ولا تحسبن المجد زقـــا وقينــــة فما المجد إلا الســيف والفتكة البكـر
ـ ما الذي عنده تـــدار المنـــــــــايا كالذي عنـــــده تُــــدار الشـــــمول
ـ ومن ينفق الساعات في جمع ماله مخافة فقــــر فالذي فعل الفقــــــــر
ــ ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته ما قاتـه ، وفضول العيش أشــــغال

وفضلا عما تقدم: هناك براعته الفائقة في المديح، ففيه بلغ الغاية التي لا ترام، وهذا سر إعجاب سيف الدولة به وتقريبه له ، وإغداقه عليه:

على قدر أهل العزم تأتـــي العزائم وتأتــــــي على قـدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغـــارها وتصغر في عين العظيــــم العظائم
يكلف ســـــــيف الدولة الجيش همه وقد عجزت عنه الجيوش الخضارم
إذا كان ما تنويـــــــه فعلا مضارعا مضــى قبل أن تلقـى عليه الجوازم


لكل امرئ من دهره ما تعــــــودا وعادة سيف الدولة الطعــن في العــدا
ورب مريـــــد ضره ضر نفســه وهــــاد إليـــه الجيش أهدى وما هدى
هو البحر غص فيه إذا كان راكدا على الدر واحـــذره إذا كان مزبـــــدا
تظل ملوك الأرض خاشـــــعة له تفارقه هلكــى وتلقــــــــاه ســــــــجّـدا
ومستكبر لم يعرف الله ســــــاعة رأى ســـــــيفه في كفــه فتشـــــــــــهدا
تركت السـرى خلفي لمن قل ماله وأنعلت أفراسي بنعمــــــــاك عســـجدا
وقيدت نفســي في ذراك محبــــة ومن وجد الإحســـــــان قيـــدا تـقيـــدا


وقد تفوق في الهجاء فأتى بالمعجزات، ولا سيما في هجاء كافور الإخشيدي:

نامت نواطير مصـر عن ثعالبهــا فقد بشــمن وما تفنى العناقيـــــــد
جود الرجـال من الأيـدي وجودهم من اللسان فلا كانــوا ولا الجـــود
ما يقبض الموت نفسـا من نفوسهم إلا وفي يـده، من نتنــــها، عـــود
صار الخصي إمام الآبقيــن بهــــا فالحر مســــتعبد، والعبـــد معـبود
من علم الأسود المخصي مكرمـة أقومه البيض أم آبــــاؤه الصيــد؟
أم أذنـــــه في يد النخاس داميـــة أم قـــــدره وهو بالفلسين مردود؟
لا تشتر العبـــد إلا والعصـــا معه إن العبيـــــد لأنجــاس منـــاكيــد



أريـك الرضا لو أخفت النفس خافيـــا وما أنا عن نفسي ولا عنك راضيــا
أمينا وإخـــلافــا وغدرا وخســـــــة وجبنا ؟ أشخصا لحت لي أم مخازيا
وتعجبنـــــي رجلاك في النعــل إنني رأيتـــك ذا نعـــــل وإن كنت حافيــا
بمثلــك يـؤتى من بـــــلاد بعيــــــدة ليضحك ربات الحـــــداد البــواكيـــا

على أن ما حظي به المتنبي من شهرة ذائعة ومكانة سامقة ومجد أدبي لا ينبغي أن يحجب عنا حقيقة مؤسفة انتبه إليها بعض الدارسين ، وهي أن الرجل كان مصابا بالبارانويا ( جنون العظمة )، ومنهم كمال حلمي في كتابه " أبو الطيب المتنبي" ص 11، حيث قال:
" يجوز أن يكون ادعاء النبوة نتيجة مرض عصبي أو عيب عقلي عند أبي الطيب المتنبي"


ونحن ههنا سنحاول البحث عن الحقيقة ، وذلك بالوقوف على كنه البارانويا وأعراضها أولا، لنرى هل تنطبق على أبي الطيب، ثم نعمد بعد ذلك إلى إبراز الدلائل وإصدار الأحكام.

أما البارانويا كما جاء في مراجع علم النفس فنوع من المرض العقلي ، يتسم صاحبه بأنه :

1 ــ يغتر بنفسه ويتكبر، ويرى أن الناس جميعا دونه( يزعم بعضهم أنه نبي مرسل أو زعيم ملهم ).
2 ــ يتوهم أن الناس يراقبونه ويتجسسون عليه ويحسدونه ويتربصون به الدوائر.
3 ــ يتذمر من الزمان والدنيا ويعتقد بأنها لم تعطه ما يستحق.
4ــ يعتزل الناس، ويبتعد عنهم، ( قد يدمن السفر والترحال).


أما غرور المتنبي فأمر بيّن لا خفاء فيه، يتجلى في سلوكه وفي شعره على حد سواء. يدل على ذلك أنه:

(1) أراد وهو صغير الاستيلاء على الخلافة : وبغية الوصول إلى ذلك جمع حوله نفرا من البدو، وراح يهاجم بهم أهل المدن ،إلا أن لؤلؤا الغوري أمير حمص قمع ثورته وأخمــدها، وعمـــــــد إلى زجه في غياهب السجن، كانت هذه الحادثة في صباه.

(2) رفض أن ينشد الملوك شعره واقفا، كما رفض أن يقبّل الأرض بين أيديهم، وإن المراجع الأدبيــة تجمع على أن أبا الطيب اشترط على سيف الدولة في أول لقاء لهما ألا ينشـــده الشعر إلا وهو قاعـــــد
وألا يُكلّـف بتقبيل الأرض بين يديه ، وقد قبل سيف الدولة بهذا الشرط.

(3 ) ادعى النبوة، وأكثر الناس على أن لقبه جاءه من جراء ذلك، وإن كانت هنالك نظريات أخرى:

أ ــ يرى بعضهم أن اللقب جاءه لأنه شبه نفسه ــ في شعره ــ بالمسيح و بصالح عليهما السلام.
ــ ما مقامي بأرض نخلة إلا كمقام المسيح بين اليـهــود
ــ أنا في أمة تداركـها اللــــ ـه غريب كصالح في ثمود


ب ــ يرى بعضهم أن اللقب أطلقه الناس عليه، لأنه تبوأ مكانة رفيعة القدر في الشعر، ومن
هؤلاء الطبسي الذي رثاه حين مات، فقال عنه:
كان من نفسه الكبيرة في جيـ ـش ، ومن كبرياه في سلطان
هو في شــــعره نبي ، ولكن ظهرت معجزاته في المعاني

ج ــ وأورد المعري في " رسالة الغفران" خبرا ، وهو أن المتنبي سئل عن حقيقة لقبه، فقال هو من النبـــوة أي المرتفع من الأرض.

ــ كما أورد أيضا خبرا ثانيا، وهو أن ابن معاذ وكان صديقا حميما له ، قال له: والله إنك لشاب
خطير، تصلح لمنادمة ملك كبير، فقال له المتنبي: ويحك ! ما تقول؟ أنا نبي مرسل.. فقال له
ابن معاذ: إلى من ؟ قال : إلى هذه الأمة الضالة المضلة. قال : تفعل ماذا؟ قال : أملأ الأرض
عدلا كما ملئت جورا.

ــ وذكر آخرون أن المتنبي، كان يسمي نفسه " لا " ، و يستخدم عبارة: " لا نبي بعدي " و
يكررها.

ــ وقيل إن المتنبي كان يزعم أنه صاحب معجزات : يحبس المطر ، ويبرئ الجراح.

ــ وزعم بعضهم أن له كلاما حـــــــاول فيه نظم ســور مثل: " والنجم الســـــــيار، والفلك الدوار
إن الكافر لفي أخطار ، امض على سننك ، واقفُ أثر من كان قبلك من المرسلين، فإن الله قامـــع
بك زيغ من ألحد في دينه وضلّ عن سبيله"










ولئن كان تطلعه إلى الخلافة، وادعاؤه النبوة تعبيرا عن طموحه الشـــــديد فإن الغرور يفوح في شعره من كل ناحية ، وهذه طائفة من أقواله ، تعبر عن صلفه وغطرسته:

ــ سيعلم الجمع ممن ضم مجلســـنا بأنني خبر من تســـعى به قـدمُ
ــ أمط عنك تشبيهي بما وكأنـــــــه فما أحد فوقي، ولا أحد مثـــلي
ــ إن أكن معجبا فعجــــب عجيب لم يجد فوق نفســه من مزيــــد
ــ وفؤادي من الملـــــــوك وإن كا ن لســـاني يرى من الشـــعراء
ــ تغرب لا مستعظما غير نفســه ولا قابـــــلا إلا لخالقــه حكمــــا
ولا خائضا إلا ضمير عجـــاجة ولا واجــــدا إلا لمكرمة طعمــا
وإني لمن قــوم كأن نفوســــــهم بها أنف أن تسكن اللحم والعظما

ولو كان المتنبي مصابا بالغرور وحده لهان الخطب لكنه غرور اقترن باحتقار الناس وازدرائهم:

أي محــــل أرتقي أي عظيم أتقـــــي ؟
وكل ما قد خلق اللـــــــــــــه وما لم يخــــــلق
محتقر في همتي كشعرة في مفرقي

وقد جاهر بعداوته للناس، وعبر عن استخفافه بهم وتعاليه عليهم ، فشبه نفسه بالذهب، وشبههم بالتراب:
ودهر ناســـــه ناس صغـار وإن كانت لهم جثث ضخـــام
وما أنا منهم بالعيش فيهــم ولكن معـدن الذهب الرغــــام

ورأى أنهم مجبولون على الظلم والأذى:
ــ والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفــــــة فلعلــة لا يظلــم
ــ كلما أنبت الزمـــــــــان قنـــــاة ركب المرء في القناة سنانـا

ونعتهم بأن وحوش مفترسة يأكل بعضهم بعضا جهارا:
إنما أنفس الأنيس ســــــــباع يتفارســـن جهرة واغتيالا
من أطاق التماس شيء غلابا واغتصابا لم يلتمسـه سؤالا

ولم يكتف بذلك حتى طالب نفسه وطالب غيره بالحذر منهم و استخدام القسوة معهم بدلا من الرحمة:
ــ لا يخدعنــــك من عــــدو دمعــه وارحم شبابك من عدو تـرحـــم
ــ ومن عرف الأيـــام معرفتي بها وبالناس روى رمحه غير راحــم

كما اعتقد أن الناس يحسدونه، ويتمنون زوال نعمته:
ــ ماذا لقيت من الدنيا وأعجبه أني بما أنا شـــاك منه محسـود؟
ــ أزل حسد الحساد عني بكبتهم فأنت الذي صيرتهــم لي حُسـدا


أما ارتيابه بالناس فدلائله في شعره كثيرة، كقوله:
وكن على حذر للناس تضمــره ولا يغرك منهـــم ثغر مبتســـم

وقد أفرط في الشك وأمعن في الارتياب حتى فقد الثقة بالناس جميعا:
ولما صــار ود الناس خبــــا جزيت على ابتسام بابتســـام
وصرت أشك فيمن أصطفيه لعلمـي أنه بعض الأنــــــــام

والمتنبي دائم الشكوى من الزمان أو الدهر، يرى أن الدنيا ظلمته ولم تعطه المكانة التي يستحق:
ــ رماني الدهـــر بالأرزاء حتى فؤادي في غشــــاء من نبــــــال
فصرت إذا أصابتني ســـــهام تكســـرت النصال على النصـال
ــ عرفت نوائب الحدثـــــان حتى لو انتســبت لكنت لها نقيبـــــــا

ولعل خوفه من الناس قاده إلى الترحال والسفر، على أن الأسفار لم تحسّن ظروفه ولم تقل عثرته :
ــ أبدا اقطع البــــلاد ونجمي في نحوس، وهمتي في سعود

إن الأعراض المذكورة آنفا تنطبق على المتنبي كل الانطباق، وتدعونا إلى المزيد من النظر والتــأمل
لذلك سنطرح سؤالا ثانيا هو: ما أسباب البارانويا وهل تنطبق عليه ؟؟

الحق أن علماء النفس يذهبون إلى أن البارانويا تنجم عن علاقة مضطربة بين الشخص وأمه في مرحلة الطفولة، أما فرويد فيرى أنها تنشأ عن الكبت الشديد للأفكار والمشاعر المحظورة اجنماعيا، ولا سيما الجنسية المثلية منها.

أما عن علاقة المتنبي بأمه فمن المؤسف حقا أننا لا نعرف عنها شيئا البتة، وكل ما نعرفه هو أن أمه ماتت وهو صغير جدا لتتركه في كنف جدته، فلعل موتها المبكر كان طعنة نجلاء في حياته، وجرحا نازفا لم يندمل طوال عمره، كأنها بموتها أجرمت في حقه إذ تركته ــ وهو غض غريـــــر ــ عرضة لنوائب الدهر وعوادي الزمان.







وأما المثلية المكبوتة عند المتنبي فأمر نتردد كثيرا في إثباته، وإن كانت هنالك دلائل واهية في شعره تشير إليها، منها :

أ ــ أن المتنبي كان عزهاة عزوفا عن النساء إلى حد ما، وقد صرح هو نفسه بذلك إذ قال:
وللخود مني ســـــــاعة ثم بيننا فلاة إلى غير اللقاء تجـــــاب
وما العشق إلا غــرة وطمـاعة يعرض قلب نفســــه فتصاب

ومما يؤكد كراهيته للنساء أنه، حين تحدث عن الدنيا وغدرها ، شبهها بالنساء:
أبدا تســــــــترد ما تهـب الدنــــ ــيـا ، فيا ليت جودها كان بخــــلا
وهي معشوقة على الغدر لا تحـ ــــفظ عهـــدا ، ولا تتــمم وصــلا
شــــــــــيم الغانيـــات فيها فلا أد ري : لذا أنث اسمها الناس أم لا ؟


ب ــ أن المتنبي في مدحه سيف الدولة كان يجنح في كثير من الأحيان إلى ما يشبه الغزل، كقوله:
ــ وا حر قلبــاه ممن قلبــه شـــــبم ومن بجسمي وحالي عنده ســــقم !..
ــ ما لي أكتم حبا قد برى جســــــدي وتدعــــي حب سيف الدولة الأمم ؟!


ــ فلو كان ما بــــي من حبيــــب مقنــع عذرت ولكن من حبيــب معمـــــم
رمى واتقى رميي ومن دون ما اتقى هوى كاسر كفي وقوسي وأسهمي



والآن ــ وبعد أن عرضنا هذه الآراء والأدلة ــ نطرح على أنفسنا سؤالا ثالثــــــا وأخير،وهو: أيعقل أن يكون شاعر العربية الأكبر مريضا من الناحية النفسية ؟ مصابا بجنون العظمة ؟ أقول طبعا مثل هذا لا يمكن أن يصدق أو يتصور، وكيف يستطيع العربي الذي اعتاد ســـــماع الثناء على المتنبي أن يتقبــــل مثل هذه الأقاويل. إلا أن العجب قد يتقلص إذا أخذنا في الحسبان الأمور التالية:

ــ أن البارانويا نوعان ( والمتنبي كان يعاني النوع الأول )

ــ أن المثلية المكبوتة غير المثلية الصريحة ( والمتنبي عانى النوع الأول ).

ــ أن هنالك شعراء كبارا في العربية كانوا مصابين بالمثلية الصريحة ( أبو نواس مثلا)

ــ أن هنالك عباقرة في سائر الأمم كانوا مصابين بجنون العظمة أيضا :

منهم على سبيل المثال الكاتب الألماني غوتـــــه، وكان يتعرض لنوبات من الجنون، وقد اعترف بها
كما أنه كان معجبا بالمتنبي لأنه امتلك الشـــجاعة و الجرأة على ادعاء النبوة، ولئن كان قد امتنع عن ادعاء النبوة فإنه كان يحوم حولها، والدليل على ذلك أنه تقمص في كتاباته أدوار الأنبياء مثل موسى والمسيح ومحمد عليهم السلام.



ومنهم أيضا الفيلسوف الألماني نيتشة، الذي كان يعاني أيضا هزات نفسية طوال حياته، حتى إنه أصيب في العقد الأخير من حياته بالجنون، ولعل ما يدل على أن فكرة النبوة راودته، كتابه الشهير " هكذا تكلم زرادشت".



ونشير ههنا أيضا إلى الفيلسوف الألماني شوبنهاور الذي كان مصابا بجنون العظمة ، وكان على غرار المتنبي يعتقد أن الناس يتربصون به الدوائر، ويتوهم أن هنالك مؤامرة كونية تحــــاك ضده بغيــة كبح عبقريته ، ولم يكن بوسع أحد أن يمحو هذه الفكرة من عقله. وقد روي عنه أنه عندما بلغ الســـــاـدسة والعشرين جعل يقارن نفسه بالمســــــيح، ويرى أنه مبعوث لهداية البشـــر، وقد صرح بذلك، فقــــال : " يحصل لي ما حصل ليســـــوع الناصري عندما أيقظ حوارييه النائمين. أنا رجـــــل الحقيقة في هذا العالم" وقد عانى شوبنهاور أيضا شعور الاضطهاد، فتوهم أن الناس يريدون القضاء عليه؛ لذلك كان يحمل معه مسدسا باستمرار، ويضع يده على الزناد ، ويفزع لأقل ضجة أو هبـة ريح معتقدا أن هنالك أشــخاصا قادمين لاغتياله، وبلغ من خوفه من البشـر أنه كان إذا أبدع فكرة كتبها بالإغريقية واللاتينية، وخبأها بين صفحات كتبه؛ كيلا تقع عليها عين أحدهم فيسرقها منه.



وكذلك الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو، فقد حام حول ادعاء النبوة حين قال: " لو أردت أن أكون نبيا فمن كان يمنعني ؟" كما كان يحس بالخوف من البشر، ويشك في أقرب المقربين إليه من أصدقائه،
ويروى أنه غير مسكنه عدة مرات خوفا من ملاحقة وهمية.


على أن كل ما قيل عن المتنبي لا يحط من قدره، ولا يقدح في شعره، ولا ينال من عظمته، فهو شاعر العرب الأول والأخير بلا منازع، وسيبقى اسمه خالدا على كر العصور واختلاف الدهور.




















المصـــادر والمــراجع


ــ أيمن محمد زكي العشماوي، قصيدة المديح عند المتنبي، دار النهضة العربية، بيروت 1983م.
ــ البغدادي ( عبد القادر بن عمر) ، خزانة الأدب ، المطبعة السلفية، القاهرة 1348 هـ
ــ بلاشير ، أبو الطيب المتنبي دراسة في التاريخ الأدبي، ترجمة إبراهيم الكيلاني، وزارة
الثقافة والإرشاد القومي، دمشق ، سنة 1975م.
ــ الثعالبي ( عبد الملك ، أبو منصور)، يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر ،تحقيق محيي الدين
عبد الحميد، المكتبة التجارية الكبرى، مصر، سنة 1956م.
ــ طه حسين، مع المتنبي، دار المعارف، القاهرة، سنة 1980م.
ــ عبد الوهاب عزام، ذكرى أبي الطيب بعد ألف عام، دار المعارف، مصر، ط2، سنة ؟
ــ عمر فروخ، تاريخ الأدب العربي ــ الأعصر العباسية، دار العلم للملايين، بيروت 1968م.
ــ فؤاد أفرام البستاني، أبو الطيب المتنبي، المطبعة الكاثوليكية، بيروت 1937م.
ــ المتنبي ( أحمد بن الحسين)، ديوان المتنبي بشرح العكبري، تحقيق الســقا والإبياري والشلبي،
مطبعة البابي الحلبي، القاهرة، ط/2، سنة 1956م.
ــ محمد كمال حلمي، أبو الطيب المتنبي، مطبعة الشباب، القاهرة، سنة 1931م.
ــ محمود محمد شاكر، المتنبــــي ، مطبعة المدنـي ، القاهرة ، سنة ؟
ــ المعري ( أبو العلاء، أحمد بن عبد الله) ، شرح ديوان أبي الطيب المتنبي، معجز أحمد، تحقيق
عبد المجيد دياب ، دار المعارف، مصر ، سنة ؟
ــ ناجي علوش، أبو الطيب المتنبي دراسة في هويته وشعره، دار الرواد، بيروت، سنة 1993م.
ــ يوسف البديعي، الصبح المنبي عن حيثية المتنبي، تحقيق السقا و شتا والزيان، دار المعارف ،
مصـــر ، سنة 1963م.