صورتي
الاسم:
الموقع: Al Ain, Abu Dhabi, United Arab Emirates

السبت، أكتوبر 28، 2006

فلسفة المعري

بسم الله الرحمن الرحيم


فلسفة المعري
د. عبد الرحمن دركزللي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هو أبو العلاء أحمد بن عبد الله المعري الشاعر والفيلسوف واللغوي, ولد بمعرة النعمان سنة 365 هـ . وعندما بلغ الرابعة من عمره أصيب بالجدري ففقد على إثره بصره.

تلقى العلم على أبيه وأعمامه, ثم اتجه إلى حلب فأخذ عن أكابر علمائها, ثم قصد بعد ذلك أنطاكية, فاطلع على ما في مكتبتها من الكتب والأسفار.

وعندما اشتد عوده وتمكن من نظم الشعر عقد العزم على الذهاب إلى بغداد, فيمم وجهه شطرها, ولكنه رجع إلى مسقط رأسه لدى سماعه بوفاة أمه. وقرر أن يحبس نفسه في بيته حتى إنه لقب برهين المحبسين, كما امتنع عن أكل اللحوم, واقتصر على الزيت والعدس، وقد علل ذلك بأنه يمتنع عن اللحم رحمة بالحيوان وإشفاقاً عليه, ومرض ذات يوم فجاءه بعض طلابه بفروج ليأكله, فنظر إليه ثم قال: " استضعفوك فوصفوك. هلا جاؤوا بشبل الأسد ! " .

وكان المعري ناقماً على الدنيا برى أنها دار نكد وشقاء لذلك امتنع عن الزواج وآثر العزلة, وتفرغ للتأليف ونظم الشعر ودراسة اللغة, وكان الطلاب يؤمونه من كل حدب وصوب, ينهلون من علمه ويأخذون عنه الأدب.

نبغ أبو العلاء في علوم اللغة والفلسفة وترك لنا عددا من المصنفات والدواوين الشعرية ومن أشهرها رسالة الغفران وسقط الزند واللزوميات وفي أعماله نظرة تشاؤمية ونقد لاذع للمجتمع. توفي سنة 449 هـ , وقد أوصى أن يكتب على قبره البيت التالي :




هذا جناه أبي علىّ وما جنيت على أحد














يمتاز المعري من سائر شعراء العربية بنظرته الشاملة ورؤيته العميقة, ولعل هذا ما حمل بعضهم على وصفه بالفيلسوف. على أن من فعل هذا لم يعد الحق ولم يجانب الصواب. ولئن كانت آراؤه متناثرة في أشعاره ودواوينه فإن القارئ المجتهد قادر على استخلاص مادتها وجمع شتاتها, واستنباط ما اشتملت عليه من مبادئ لمذهب فلسفي محكم دقيق.

ولا بد لي قبل الخوض في فكر المعري من القول بأن فلسفته تمتاز بثلاث خصائص:
أولاها : الشمولية, فهو يتناول كل عناصر الوجود من خالق ومخلوق ومكان وزمان ومادة وروح وديانات وعقائد وغير ذلك.

والثانية : هي المنطقية, فأنت لا تجد في شعره خرقاً للنظام الفكري أو النسق الذهني بل ترى كل شيء يجري وفقاً لفكرة آمن بها وانطلق منها شأنه شأن المهندس القدير الذي أرسى قواعده ثم راح يشيد بناءه يإتقان وإحكام جرياً على حسابات وتقديرات سبق له أن قام بها.

والثالثة : هي الموضوعية, فهو لا يتوخى إلا الحق ولا ينشد إلا الصدق بصرف النظر عن المشاعر والأهواء والقيم السائدة, ولعل هذا ما جر عليه غضب العامة ونقمة رجال الدين وغضب الجهلاء والحاسدين.

وقبل أن نمضي في رحلتنا إلى عالم المعري ينبغي لي أن أحذر السامع وأنبهه على أن عالمه كئيب موحش لا تلوح فيه بارقة أمل , ولو شئنا تحديد ألوانه لقلنا إنها الأسود أو الرمادي أو الأزرق القاتم . وقد يبادر أحدنا فيقول : وما الذي تنتظره من رجل ضرير أخنى عليه الزمان وفجعه ببصره؟؟ أقول : هذا صحيح لولا أن الناس عرفوا أيضاً عمياً أقبلوا على مباهج الحياة وانغمسوا في مسراتها وبشار بن برد خير مثال على ذلك, على أنني أقول : رؤية الفنان هذه قدره لا مناص له منه وأنت لا تستطيع مطالبة الفنان الذي ترعرع في الشقاء وتجرع كؤوس الآلام بنظرة متفائلة كما لا تستطيع مطالبة الفنان الذي تقلب في النعيم أن يكون حزيناً متشائماً, ولئن وجدنا انكساراً لهذا القانون فإن ذلك يرجع إلى ما بين البشر من فروق في الظروف والتكوين الجسدي أوإلى طبيعة الحياة القائمة على التناقض, فقد ينبجس الماء من الصخر, ويشرق النور في قلب الديجور, وقد يكون الضحك تنفيساً عن الألم وترويحاً عن النفس على مبدأ (( الطير يرقص مذبوحاً من الألم)). علينا إذا أن نتقبل نظرة أبي العلاء السوداوية التشاؤمية ونرتضيها خصوصاً إذا أدركنا أنه كان صادقاً مع نفسه.

والآن دعونا نتبين خصائص الفلسفة المعرية في شمولها ومنطقيتها وصدقها. فأنت, في شعره ونثره, ترى الحياة ببعديها المادي والغيبي .. ترى الصحراء بامتدادها الشاسع, ورمالها العطشى, وشموسها المحرقة, وأشواكها ووحوشها وظبائها وإبلها. تسمع فحيح الأفاعي وعواء الذئاب, كما تسمع خبط الإبل وتبصر أسراب الجراد. ثم يصعد بك إلى عالم السماء فترى النجوم والكواكب وزحل والمريخ وسهيلاً والمشتري، وقد يمضي بك إلى البحور الهائجة أو الجبال الشاهقة. وكأنه بذلك يريد أن يقدم إليك خشبة مسرح ( هي الدنيا ) ليضع عليها الإنسان ويحركه فوقها . والإنسان على كل حال هو ملتقى العجائب والغرائب , وما ذلك إلا لأنه حمل الأمانة التي أبى حملها غيره من المخلوقات.







ولكن هذا العالم المادي المحسوس ليس كل الحقيقة, بل ينهض من ورائه عالم أخر أشد أثراً وأكثر خطراً إنه عالم الغيب. وعالم الغيب عند المعري ليس فيه إلا شيء واحد هو الله.وبخلاف كل من اتهم المعري بالإلحاد أقول: إن الله يطل شعره من كل ناحية وأؤكد أنه ما ارتاب أو شك في وجوده قدر ذرة, وقد عثرنا في قصائده على كثير من الأبيات التي يسبح فيها بحمده , ويقر فيها بوحدانيته, حتى إنه في ديوانه (( لزوم ما لا يلزم)) يقول عن قصائده ( فمنها ما هو تمجيد لله الذي شرف عن التمجيد , ووضع المنن في كل جيد , وبعضها تذكير للناسين وتنبيه للرقدة الغافلين). ولعل أبرز صفاته الوجود والاقتدار:

أقر بأن لي رباً قديراً ولا ألقى بدائعه بجحد


كما يعترف بأنه يجهل الحكمة من خلق البشر ولكنه على ثقة بأن هنالك إلهاً قديراً وراء ذلك.
الله صورنـي ولســـــــــــــت بعالم لم ذاك؟ سبحان القدير الواحد فلتشهد الســــــاعات والأنفاس لي أني برئت مـن الغوي الجاحد

وهو رب عظيم جدير بالحمد والثناء, فكل شيء يسبح بحمده حتى العجماوات :

كل يسبح , فافهم التقديس في صوت الغراب وفي صياح الجدجد

وهو عليم خبير لا يعزب عنه مثقال ذرة ولا يخفى عليه شيء من هواجس النفوس:

إذكر إلهك إن هببت من الكــــرى وإذا هممت لهجعة ورقاد
واحذر مجيئك في الحساب بزائف فالله ربـــك أنقــد النقــاد

وهو المنعم المتفضل على عباده سواء أكانوا أهلاً للفضل أم لم يكونوا, وسواء آمنوا به أم كفروا:

تورعوا يا بني حواء عن كذب فمالكم عند رب صاغكم خطر
لم تجدبــوا لقبيح من فعـــالكـم ولم يجئكم- لحسن التوبة- المطر

وكل ما يحرزه المرء في الحياة من نجاح وفوز فإنما هو بفضله ومنّه، لا بسعي الإنسان وجهده:

لم تبلغ الآراب شدة ساعد ما لم يعنها الله بالإسعاد







ونلاحظ- في هذا المجال- أن المعري يقر بوجوده , ويعترف بعظمته , ويشير إلى فضله , ولكنه لا يعترف بعد ذلك بشيء مما يتصل به كالأنبياء والديانات والملائك والجان والظاهر أن الله- عند المعري- خلق الإنسان وزوده بالعقل, وأنعم عليه بالحياة, ولكنه لم يسخر الأنبياء لهدايته وإرشاده, ولا أرسل كتباً سماوية تهديه إلى الحق, وترسم له طريق السعادة . وإذاً فالنبوات والشرائع عنده من صنع البشر, أوجدها رجال أذكياء قصدوا من ورائها تحقيق المصالح.

وحديث المعري عن الإسلام وعن الرسول الكريم يبدو وكأنه حديث رجل موضوعي فهو يعترف بعظمة الإسلام ونبل صاحب الرسالة . ولكنه يبعد نفسه عن الموضوع :

دعاكــــم إلى خير الأمـــور محمــد وليس العوالي في القنا كالسوافل
حداكم على تعظيم من خلق الضحى وشهب الدجى من طالعات وآفل
وألزمكـــم ما لــــــيس يعجز حمـــله أخا الضعف من فرض له ونوافل
وحث على تطهير جســـــم وملـــبس وعاقب في قذف النساء الفواضل
وحــــرم خمراً خلت ألــباب شربــها من الطيش الباب النعام الجوافل
فصلــــى عليه الله ما ذر شـــــــارق وما فت مسكاً ذكره في المحافل




وفضلاً عن الملاحظة السابقة أقول إن المعري يضع بجانب الله سلطة أخرى هي القدر وهذه السلطة تبدو غاشمة ظالمة متحكمة بشؤون البشر, قوتها لا تدفع ولا تغلب ولا ترد ومثل هذا يدفعنا إلى التساؤل : ماذا أراد أبو العلاء بالقدر؟؟ ترى هل القدر والله- عنده- شيء واحد؟ أم أن القدر هو إرادة الله ومشيئته؟ أم أن القدر هو شيء أخر غير الله؟. ثلاثة احتمالات لا يقبلها العقل ولا يسيغها المنطق. فإذا كان القدر هو الله فمعنى ذلك أن الله ظالم غاشم. وإذا كان القدر هو مشيئة الله أو ما كتبه على عباده فمعنى ذلك أن الله كتب الظلم على عباده وحاش له. وإذا كان القدر شيئاً أخر غير الله فمعنى ذلك أن المعري مشرك لأنه يجعل بإزائه شريكاً له يمارس تأثيره في الناس مستقلاً. والحق أن المعري يجعل للقدر سلطاناً قوياً على العباد تتضاءل إلى جانبه سلطة عليهم. فليت شعري هل أراد بالقدر إبليس اللعين أم أراد أن يقول : إن هنالك قوتين تتحكمان في الناس والمخلوقات إحداهما تمثل الخير, والأخرى تمثل الشر أم أن المعري وسم الخالق- في قرارة نفسه بالظلم- فنسب ذلك إلى القدر على سبيل التقية. وهذا أمر مألوف لدى البشر حتى إنهم أحياناً يلعنون الأقدار وينحون عليها باللائمة والذي يبدو لي هو أن المعري مضطرب في هذه الناحية أشد الاضطراب . فهو في بعض الأحيان ينسب الظلم إلى القدر والزمان , كما في قوله :

وهو الزمان قضى بغير تناصف بين الأنام وضاع جهد الجاهد
سهـــد الفتـــى لمطالب ما نالهــــا وأصابها من بات ليس بساهــد

وفي بعض الأحيان ينسب الأمر إليه عز وجل ولكن بنوع من الحذر :

اسكــــت فإن السكـــوت منقبــة تأمن به إنســـها وخابلها
ترضى بحكم القضاء في سخط وهل تحب الظباء حابلها
جبـــــلـــة بالفساد واشجــــــــــة إن لامها المرء لام جابلها


وإيمان المعري بالقدر ناجم عن فلسفته الجبرية, وكم من مرة صرح بأنه على هذا المذهب فالإنسان في رأيه مجبر تحركه الأقدار كالريشة في مهب الريح لا يستطيع إفلاتاً منها , وكل محاولة للنجاة مكتوب لها الإخفاق :
يغدو على درعه الزراد يحكمها وهل ينجيه، مما قُـدّر، الزرد ؟!

كما أن الفساد يعم الدنيا ويشمل كل شيء وذلك بفعل القدر الذي لا يرحم ولا يني في تعذيب المخلوقات. والقضاء على الفساد أو محاولة مكافحته أمران مســـتحيلان, يعجز عنهما الإنســـان كما يعجز الغراب عن التخلص من سواده. والنهر عن تغيير مجراه:

حوتنـــا شرور لاصلاح لمثلهــــا فإن شذ منـا صالح فهو نــــــــادر
وما فسدت أخلاقنـــا باختيارنــــــا ولكــــن لأمـــــــر سببته المقـــادر
وفي الأصل غش و الفروع توابع وكيف وفاء النجــل والأب غادر؟!
إذا اعتلت الأفعال جاءت عليلـــــة كحالاتها أسماؤها والمصـــــــــادر
فقل للغراب الجون إن كان سامعـاً أأنت على تغيير لونـــــــك قادر ؟!

ويلح المعري على أن الإنسان بريء من شروره, وأن القدر هو المسؤول عما هو فيه من عماية وضلال وانجراف وراء الباطل :
وردت إلى دار المصائب مجبراً وأصبحت فيها ليس يعجبني النقل
أعاني شروراً لاقوام بمثلهــــــــا وأدناس طبع لا يهذبه الصقـــــــل

ويرى أن الوجود سجن مظلم قاتم لا يستريح المرء إلا بمغادرته والخروج منه وهذا لا يكون إلا بالموت :
إلام أجر قيود الحيـــــاة ولا بد من فك هذا الإســــار
قدمنا إليها على رغمنـا ونخرج من ضنكها باقتسار

و إذاً فالإنسان مجبر, سواء في مجيئه إلى الدنيا أو خروجه منها, كيف لا يكون ذلك وتحديدالبداية والنهاية يعنيان أن الإنسان مسير إلى أقصى حد شأنه شأن الأنعام. لا يملك اختياراً ولا حرية ولا رأياً. وإنما هو أسير مغلول مقود إلى الشر بأعنة القدر :

ما باختياري ميلادي ولا هرمي ولا حياتي, فهل لي بعد تخيير
ولا إقامـــــة إلا عن يدي قــــــدر ولا مسير إذا لم يقض تيسيــر

على أن المعري يتمرد على هذه الفكرة أي على الحتمية المطلقة والجبرية التامة, لأن مثل هذه الفكرة تقوده إلى الكفر بعدالة الله, وتدعوه من طرف أخر إلى تبرئة المذنب والمخطئ والمسيء. وكيف يلام الإنسان على ذنب فعله مجبراً؟؟
قالت معاشر : كل عاجز ضرع ما للخلائق لا بطء ولا ســــرع
مدبرون فلا عتب إذا خطئــــــوا على المسيء ولا حمد إذا برعوا
وقد وجدت لهذا القول في زمني شــواهداً ونهاني دونــــه الورع

وإذاً فالإيمان بالجبرية المطلقة يقود- كما قدمنا- إلى تبرئة المذنب وإلغاء قيمة الخير فضلاً عن أنه يدعو إلى وسم الخالق بالظلم؛ لذلك يرفض هذه الفكرة ويحاول البحث عن مخرج منها. صحيح أن ما يراه في الحياة الواقعية يشير إلى ذلك. بيد أن هذه الفكرة خطرة, إذ تدعو الإنسان إلى فتح الباب لكل مقصر ومذنب وخاطئ. وإذا كان الأمر كذلك فمعنى ذلك أن دور الشرفاء والخيرين والصالحين هباء وعبث. والظاهر أن المعري بعد أن قال بالجبر شعر بالتناقض الحاد لأن إلهاً ظالماً غاشماً لا رحمة عنده غير جدير بالعبادة وتعالى سبحانه عن أن يكون كذلك فهو عادل رحيم :
أأخشى عذاب الله , والله عادل وقد عشت عيش المستضام المعذب؟؟

ولا يجد أبو العلاء, بعد النظر والتحقيق, إلا أن يعترف بأن هنالك حرية في الوجود، والعقل هو الدليل ؛لأن وجود العقل يقتضي أن الإنسان قادر على البحث والاختيار , ولو كانت الحياة جبراً تاماً لكان وجوده ضرباً من العبث, ولكان البشر بلا عقول أفضل منهم مزودين بها, بيد أن دور العقل محدود أمام دور القدر:
الصمت أولى, وما رجل ممنعة إلا لها بصروف الدهر تعثير
والعقل زين , ولكن فوقــــه قدر فما له في ابتغاء الرزق تأثير

في هذه المرحلة شعر أن العقل شيء عظيم , ولكن القدر المطبق يلغي دوره , ويعطل تأثيره , وما قيمة عقل لا ينفع أو لا يؤثر؟!..
لم يزل أبو العلاء حريصاً على العقل, فهو النعمة الكبرى التي زود الله بها البشر قبل أن يدير لهم ظهره, وهو النبي الذي يرشدهم من دون سائر الأنبياء, ولكن القول بالجبر التام يؤدي إلى تعطيله.. وهنا يجب البحث عن المخرج ؛لأن الأمر لم يعد محتملاً .. فلئن كانت هنالك أقدار كالولادة والموت واللون والشكل والأعصاب والآباء والأجداد. فإن ذلك كله لا يحول دون نشاط العقل, وهكذا يبدأ في خرق جدار الجبرية فاتحاً فيه ثقباً للنور والحرية والحق والخير, وقد صور لنا نفسه وهو في حالة البحث بقوله:
لعــــل نجوم الليل تعمــل فكرهـــــا لتعلم سراً فالعيون سواهـــــــد
خرجت إلى ذي الدار كرهاً ورحلتي غلى غيرها بالرغم والله شاهد
فهـــل أنا فيما بين ذينـــــك مجبـــــر على عمل أم مستطيع فجاهد؟؟

وأحب أن أشد عقول السامعين الأفاضل إلى قوله: " فيما بين ذينك" أي بين الولادة والموت. وإلى قوله: " مستطيع" أي حر/ فاعل / قادر على الاختيار, وإلى قوله " فجاهد" أي معذب. لأن الحرية تعني المسؤولية , والمسؤولية تعني الهم والقلق والخوف كما تعني الالتزام, والالتزام يعني المغامرة أو المخاطرة, والمغامرة تعني الخروج على المألوف , واجتياز المألوف يعني الحياة الإنسانية الكريمة التي يتميز بها الآدمي من البهائم, وهكذا ينبثق النور وتشرق الحياة وتبدأ لحظة العمل الشاق. فليقذف أبو العلاء بنفسه في هذه المغامرة التي قد تكلفه سمعته وربما كلفته حياته. ولكن ينبغي أن نتذكر أن السلاح الأمضى في هذه المغامرة , أو المعركة , إنما هو العقل , والعقل وحده.
أيها الغر قد خصصت بعقل فاسألنـه ؛ فكل عقل نبي

ويسلط أبو العلاء عقله على البشر , فيراهم غارقين في الأوهام, منساقين وراء الشهوات مندفعين إلى اللذات, نابذين عقولهم وراء الظهور , وههنا يبدأ دور الصدق في المواجهة , والإخلاص في البحث عن الحق مهما كان الثمن




ويأخذ المعري في نشر المخازي التي تورط فيها علية القوم, وعلى رأســــــهم رجال الدين وأكثرهم لا يتوخى حقاً, ولا يخشى رباً, وإنما يبحث عن المآرب الخاصة والمصالح الشخصية:
وكلنا قوم سوء لا أخص به بعض الأنام ولكن أجمع الفرقا
إذا كشفت عن الرهبان حالهم فكلهم يتوخى التبر والورقـــــا

وأما الزعماء والرؤساء فإنهم يبحثون عن ملذاتهم وشهواتهم ولا يعبؤون بأمر الرعية:
فشأن ملوكهم عزف ونزف وأصحاب الأمور جباة خرج
وهم زعيمهم إنهاب مـــال حرام النهب أو إجلال فــرج
أفي الدنيا- لحاها الله- حـق فيطلب في حنادسها بسرج ؟

وإذا كانت تلك حال الرؤساء فحال الرعية أسوأ, لأن تدينهم ليس لوجه الله وإنما لوجه الشيطان:
تدين غاويهم حذار أميــــرهم فلما انقضت أيامه ذهب النسك
فأصبح من بعد التمسك بالتقى لأردانه من طيب فاجرة مسـك

وهم سادرون في غيهم مقبلون على ضلالهم, حتى إن المصلحين والمرشدين يئسوا منهم:
كم وعظ الواعظون منا وقام في الأرض أنبياء
فانصرفوا والبــلاء باق ولم يزل داؤك العيــاء

ودأبهم الحسد والغش ولعل البهائم خير منهم, لأنها-ـ على الأقل- لا تحسد بعضها على نعمة يتمتع بها غيرها:
فينا التحاسد معروف فهل حسدت مجترة الإبل أخرى ما لها جرر
نهاك ناهيك عن بيع على غــــرر وأنت كلك- فيما بــان لي- غرر

وهم قصار النظر يتعلقون بالزخارف , يقدرون الغني وإن كان فاسداً , ويحقرون الفقير وإن كان نقياً طاهراً :
أغناهم الله من مال وأفقرهم من الرشاد فما استغنوا بل افتقروا
ويحقرون أخا الإعدام بينهم وإن أفضل منهم للذي احتـــقـــروا

وتراهم يتعلقون بالألقاب ظناًَ منهم أنهم تعلي من شأنهم وتخفي ما فيهم من خزي ومنقصة وغباء:
سمى ابنه أسداً وليس بآمن ذيباً عليه إذا أطل الذيـــــب
والله حق وابـن آدم جاهــل من شأنه التقريظ والتكذيـب

ولئن حباهم الله أجساداً ناعمة, وقامات فارعة, فإن عقولهم سخيفة, ونفوسهم ضعيفة منقادة إلى الرذائل , مجذوبة إلى الشهوات :
يحســن مرأى لبنــــــي آدم وكلـــــهم في الـذوق لا يعذب
ما فيهـــم بر ولا ناســــــــك إلا- إلى نفع له- يجــــــــــذب
أفضل من أفضلهم صخـرة لا تظلــــم الناس ولا تكــذب


وداء التقليد فيهم ظاهر منتشر , فهم يرددون أقوالاً لا يفقهون معناها, ويهزون رؤوساً ليس فيها سوى الجهل والسفاه:
في كل أمرك تقليد رضيت به حتى مقالك : ربي واحد أحد

وقد تعلقوا بالمناصب وأقدموا على الموت في سبيل المراتب, طمعا بما وراءها من مكاسب ومنافع:
تنافس قوم على رتبة كأن الزمان يديـم الرتب
ودنياك غر بها جاهل فتبت على كل حال وتب

وأكتر ما يؤلم أبا العلاء من البشر أنهم يُصمون آذانهم عن سماع الحق, بل يكرهون الحق , ويمقتون من يكشف لهم عيوبهم أو يدلهم على نقائصهم . لذلك يميل إلى الصمت أو الهمس :
يبغون مني معنى لست أحسنه فإن صدقتُ عرتهم أوجه عبس

والمعري في كل ذلك يسدي النصيحة , وهو لا يتعالى ولا يدعي الكمال, و إنما يقول الحقيقة, حتى إنه يبدأ بنفسه:
ولي عمل كجناح الغراب أو جنح لـــيل إذا ما رتب
فإن كان يكتبه كاتــــــــب فقد سود الصبح مما كتب

والظاهر أن المعري لم يلق أذناً تسمع, ولا فؤداً يعي , وشعر كأنه ينادي صخرة فقرر أن يعود من جديد إلى مذهبه في الجبر أي الجبر المطلق. لذلك نراه يصرخ بأعلى صوته:
وجبلة الناس الفساد فضل من يسعى بحكمته إلى تهذيبها

وقرر أن يستسلم فرأى أن الخروج من المعركة أسلم, لذلك قرر الاعتزال. فالدنيا عاهرة فاجرة وأبناؤها على شاكلتها, وخير للمرء أن يقطع أسبابه من أسبابها. ولم يكن هذا القرار بالاعتزال قراراً مرتجلاً بل كان قرار مروى فيه . ويبدو ذلك في رسالته إلى أهل المعرة قبل أن يغادر بغداد. وفيها يقول :
" بسم الله الرحمن الرحيم : هذا كتاب إلى السكن المقيم بالمعرة شملهم الله بالسعادة . من أحمد بن عبد الله بن سليمان خص به من عرفه وداناه. سلم الله الجماعة ولا أسلمها ولم شعثها ولا آلمها. أما الآن فهذه مناجاتي إياهم منصرفي عن العراق مجتمع أهل الجدل وموطن بقية السلف بعد أن قضيت الحداثة فانقضت, وودعت الشبيبة فمضت وحلبت الدهر أشطره , وجربت خيره وشره, فوجدت أوفق ما أصنعه في حياتي عزلة تجعلني من الناس كبارح الأروى من سانح النعام , وما ألوت نفسي نصيحة ولا قصرت في اجتذاب المنفعة إلى حيزي , فأجمعت على ذلك واستخرت الله فيه بعد جلائه على نفر يوثق بخصائلهم, فكلهم رآه حزماً , وعده- إذا تم- رشداً, وهو أمر أسري عليه بليل قضي برقه , وخبت فيه النعامة, ليس بنتيج الساعة ولا بربيب الشهر والسنة , لكنه غذي الحقب القادمة وسليل الفكر الطويل"

ولئن اعتزل المعري البشر وأيس من صلاحهم فقد ظل يرميهم بشواظ من ناره ويسلقهم بألسنة حداد , مستهزئاً بهم وبسخافاتهم ودياناتهم ومعتقداتهم :
عجبت لكسرى وأشياعه وغسل الوجوه بروث البقر
وقول النصارى إله يضام ويظلم حياً ولا ينتصــــــــر
وقوم أتوا من أقاصي البلاد لرمي الجمار ولثم الحجـــر
فيا عجباً من مقالاتــــهـــــم أيعمى عن الحق كل البشر؟؟





وهاجم المتصوفة :

أرى جيل التصوف شر جيل فقل لهـــم وأهون بالحلـــــول
أقال الله حين عبدتمـــــــــوه كلوا أكل البهائم وارقصوا لي

وهاجم المشعوذين الذين لا يتورعون عن تسنم ظهر الدين واتخاذه مطية يخدعون بها الناس :

رويدك قد غررت وأنت حر بصاحب حيلة يعظ النساء
يحرم فيكم الصهباء صبحــاً ويشربها على عمد مســاء
يقول لكم غدوت بلا كســــاء وفي لذاتها رهن الكســــاء
إذا فعل الفتى ما عنه ينهـــى فمن جهتين لا جهة أســاء

وراح يبين للناس أن الدين ليس وعبادات جوفاً وإنما نقاء وطهارة في السلوك والعمل:

ما الصوم جوع يذوب الصائمون له ولا صلاة ولا صـــوف على الجسد
وإنما هو ترك الشر مطرحـــــــــــاً ونفضك الصدر من غل ومن حسد


والدين الحق يسمو على الأهواء والرغبات والنزوات, لأنه خلق قويم وسلوك سديد , وثقة بالله :

سبح وصل وطف بمكة زائرأ سبعين لا سبعاً فلست بناسك
جهل الديانة من إذا عرضت له أطماعه , لم يلف بالمتماسك

والظاهر أن المعري صعّد نقمته على البشر, حتى إنه ازدراهم ورأى الصمت خير دواء لهم وأخذ يؤثر الصمت والسكوت اتقاءً لشرور الناس :

ولما رأيت الجهل في الناس فاشياً تجاهلت حتى ظن أني جاهل
فيا موت زر إن الحياة رخيصـــة ويا نفس جدي إن دهرك هازل
فواعجباً كم يدعي الفضل ناقــــص وواأسفاً كم يظهر النقص كامل

وقرر أن الدنيا دار عذاب وشقاء والموت خير منها , فهي حية رقشاء تلسع أبناءها كل حين , أو هي امرأة سفيهة بعيدة من الطهر, بل بغي تمارس العهر:
تزوج دنياه الغبــــي بجهـــــله فقد نشزت من بعدما قبض المهر
تطهر ببعد من أذاها وكيدهــــا فتلك بغي لا يصح لها طهــــــــر

وهكذا انتهى المعري مرة أخرى إلى تشاؤمية عميقة لا تلوح فيها بارقة من أمل ولا شعاع من رجاء , والموت أرحم منها. فقعد يعد أيامه منتظراً الموت :

بوحدانيــــة العــــــلام دنا فذرني أقطع الأيام وحدي
سألت عن الحقائق كل يوم فما ألفيت إلا حرف جحـد
سوى اني أزول بغير شك ففي أي البلاد يكون لحدي؟؟


وفي الختام أقول : كان أبو العلاء يريد الخير للناس , ويتوخى لهم السعادة , ولكنه فوجئ بعقوقهم وانهماكهم في الشرور، وفضل العزلة على معاشرتهم. ثم وجد أن الموت هو الراحة.

في البداية سل حسام القول :
فمالي لا أقول ولي لسان وقد نطق الزمان بلا لسان
ولكنه في النهاية خرج من المعركة . ولسان حاله يقول :
قد فاضت الدنيا بأنجاسها على براياها وأجناسها

وهكذا سلم الأمر لصاحب الأمر واتجه إلى الله وترك النضال لغيره من المدعين والمزايدين:

لا اخطب الدنيا إلى مالك الد نيا ولكن خطبتي أختها
ما أمّ دفر أمّ طيب , ولـــــو أنك بالعنبر ضخمتهــــا

والخلاصة أن أبا العلاء ابتدأ جبرياً وانتهى جبرياً, وعندما حاول فتح باب الحرية وأعمل العقل وجد أن العقل لا يغير من طبيعة الناس شيئاً , لذلك آثر الانسحاب والعزلة وعاش ينتظر الموت.

ليس هذا كل ما أردت أن أكتبه ولكن ظروفي حالت دون التوسع فيه . فأرجو المعذرة والسلام عليكم.

























المراجع



- لزوم ما لا يلزم - دار صادر بيروت


- - أبو العلاء المعري - عائشة عبد الرحمن ( بنت الشاطئ) وزارة الثقافة سلسلة أعلام العرب عدد (38)

- مع أبي العلاء في سجنه - طه حسين - 1939 القاهرة


تجديد ذكرى أبي العلاء - طه حسين - (ط 6/ 1963) (ط1/ 1914) دار المعارف بالقاهرة

أبو العلاء المعري زوبعة الدهور - 1962 (ط 3/ 1970) دار مارون عبود

تاريخ الفكر العربي إلى أيام ابن خلدون - عمر فروخ- بيروت 1966 دار العلم للملايين









1 Comments:

Blogger Sunshine Maryam said...

أبحث عن قرض فوري تطبيق
تقدم بطلب للحصول على قرض نقدي عبر الإنترنت بأسعار فائدة منخفضة واحصل على موافقة فورية. اتصل بنا عبر البريد الإلكتروني:
contact@sunshinefinser.com أو
واتساب: +919233561861

شكرًا

1:25 م  

إرسال تعليق

<< Home