صورتي
الاسم:
الموقع: Al Ain, Abu Dhabi, United Arab Emirates

السبت، أكتوبر 28، 2006

فلسفة الخيام

بسم الله الرحمن الرحيم


فلسفة الخيام

د. عبد الرحمن دركزللي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ما أنس لا أنس ذلك اليوم يوم رجعت إلى بيتنا , وكنت غلاماً في ميعة الصبا , لأجد أبي ــ ـرحمه الله – ينصت بشغف إلى رباعيات الخيام تشدو بها أم كلثوم . وحين بلغت قوله :
لبست ثوب العيش لم أستشـر وحرت فيه بين شـتى الفكر
وسوف أنضو الثوب عني ولم أدرك لماذا جئت ؟ أين المفر؟

لم أستطع أن أكفكف سوابق عبراتي .. أحسست برعشة تسري في جسدي وقشعريرة تعتريني , وما كنت في ذلك الوقت قادراً على فهم تلك الحالة التي انتابتني لكوني صغير السن.

رجعت بعد ذلك مراراً إلى ( رباعيات الخيام ) فقرأتها بإنعام, و تفرست في معانيها وعرفت أن روعتها ناجمة عن صدق المشاعر ورهافة الأحاسيس .

وأبرز ما لاحظته في هذه القصيدة هو أن فلسفة الخيام نتاج لتجربة روحية عميقة هزت وجدان المشاعر , وثمرة لمعاناة وجودية أصيلة , جوهرها (ظاهرة الموت) ولا عجب فالموت أبرز حقائق الوجود , ولا أبالغ إذا قلت : إن كل الفلسفات والديانات والعقائد كانت تسعى إلى تخفيف صدمة الموت على الإنسان, وإلى منحه القوة على مواجهته والاستعداد للقائه . ومما لا ريب فيه أن الديانات والفلسفات قدمت للإنسان شيئاً كثيراً من العزاء , وخففت إلى حد عظيم من هول الموت ووقعه الرهيب إلا أن الإنسان كان على الدوام في ريب من أمره وفي شك مما بعده ؟ فهل هناك بعث ونشور وثوب وعقاب كما قيل أم أن الإنسان صائر إلى الفناء والاضمحلال؟!
وقبل الشروع في عرض فلسفة الخيام يجدر بي أن أورد لكم حياة الرجل وسيرته في اسطر قليلة :
- عمر الخيام شاعر فارسي مسلم , اسمه غياث الدين , وكنيته أبو الفتح.
- وهو عالم فلكي رياضي ( له مقالة في علم الجبر عظيمة القدر)
- ولد في نيسابور على الأصح , وقيل في بلخ , وقيل في أستراباد.
- ذاعت شهرته في عهد السلطان السلجوقي ملكشاه.
- وكان فضلاً عن تخصصه في علمي الفلك والرياضيات شاعراً وحكيماً وطبيباً وعالماً في الفقه واللغة والتاريخ .
- ومن أبرز مؤلفاته :( الجبر والمقابلة) ( رسالة في الكون والتكليف ) ( رسالة في الوجود).
- وكان صديقاً حميما للوزير نظام الملك لأنه ــ فيما ذكروا ــ درس معه في مدرسة نيسابور عندما كان صغيراً , وكان لهما صديق ثالث هو الحسن بن الصباح . وتروي الأخبار أنهم اتفقوا على أنه إذا ابتسم الحظ لأحدهم في قابل الأيام وجب عليه أن يعين صديقيه الآخرين . وشاءت الأقدار أن يصبح نظام الملك وزيراً , فقصده الخيام وابن الصباح , فأكرم وفادتهما وأنعم عليهما فاختص الخيام بألف ومائتي مثقال من الذهب في كل عام , وجعل ابن الصباح كبيراً للحجاب . بيد أن الثاني لم يرض بهذا المنصب, واستبد به الحسد حتى سولت له نفسه الإيقاع والغدر بمن أنعم عليه.
- كلف السلطان ملكشاه السلجوقي عمر الخيام بأعمال الرصد الفلكي , وخصص مبالغ طائلة لتحقيق هذا الغرض.
- وشهرة عمر الخيام لا تعزى إلى نبوغه في علم الفلك وإنما إلى قصيدته المشهورة بالرباعيات, وهي التي ذاع صيتها في كل مكان وطبقت شهرتها الآفاق . والناس مختلفون في عددها , فبعضهم أوصلها إلى 280 رباعية وبعضهم قصرها على خمس وسبعين فقط.، والظاهر أن كثيراً من الرباعيات ضُم إليها وأُلحق بها.
- واختلف الناس في عقيدة الخيام فبعضهم ذهب إلى أنه من الحكماء الصالحين , وبعضهم ذهب إلى أنه من الزنادقة الملحدين القائلين بالجبر .
- والظاهر أنه كان ملحداً , لكنه حين شعر أن فكره سيجر عليه نقمة الناس وغضب العامة اصطنع التقوى وعمد إلى الحج . قال عنه القفطي:
"عمر الخيام إمام خرسان وعلامة الزمان . يعلم علم يونان ويحث على طلب الواحد الديان, وقد وقف متأخرو الصوفية على شيء من ظواهر شعره نقلوها إلى طريقتهم وتحاضروا بها في مجالسهم وخلواتهم , وبواطنها حيات ـ للشريعة ـ لواسع ، ومجامع ـ للأغلال ـ جوامع.
ولما قدح أهل زمانه في دينه ،وأظهروا ما أسر من مكنونه , خشي على دمه , وأمسك من عنان لسانه وقلمه, وحج متاقاةً لا تقية , وأبدى ألواناً من السلوك غير نقية , ولما حصل ببغداد سعى إليه أهل طريقته في العلم القديم , فسد دونهم الباب سد النادم لا سد النديم , ورجع من حجه إلى بلده يروح إلى محل العبادة ويغدو , ويكتم أسراره ولا بد أن تبدو. وكان عديم القرين في علمي النجوم والحكمة , وبه يضرب المثل في هذه الأنواع , لو رُزق العصمة" .

- وفي العصور المتأخرة حظيت الرباعيات بشهرة واسعة , خصوصاً بعد أن أقدم فتزرجرالد
(Fitzgerald) شاعر الإنجليز الكبير على ترجمتها . ثم إنها ترجمت إلى كل اللغات الأوربية.

- وفي العربية لقيت الرباعيات إقبالاً شديداً , وأقدم على ترجمتها كثيرون نثراً ونظماً , نذكر منهم وديعاً البستاني ( لبنان) ومحمدا السباعي ( مصر) ومحمداً الهاشمي ( العراق) وجميل صدقي الزهاوي وأحمد الصافي النجفي وأحمد رامي.
- ويكاد الإجماع ينعقد على أن أدق ترجمة للرباعيات هي الترجمة التي قدمها أحمد الصافي النجفي. لأنه كان يجيد اللغتين العربية والفارسية؛ فترجمته أقرب إلى الأصل الفارسي. وأما أجمل نظم , وأرق صياغة فقد تحققا في ترجمة أحمد رامي. وإن كان قد ضحى بالمعنى قليلاً لمصلحة النظم.
- عاش الخيام قرابة أربع وثمانين سنة , من سنة 433 هـ حتى سنة 517 هـ وقبره بنيسابور .
- كان العصر الذي عاش فيه الخيام عصر فوضى , يجيش بالفتن , ويمور بالاضطرابات , فالصليبيون يهاجمون الشرق ويتهددون أهله . والباطنيون يدبرون المكايد لهدم الإسلام ويبثون الدُعاة لنشر الإلحاد , والأعاجم يتسلطون على شؤون الحكم , والشعوبية تمارس نشاطها على أوسع نطاق.
- ومن المؤكد أن الخيام ألمّ بكتب الفلاسفة القدماء, ودرس الإلهيات واطلع على كتاب الشفاء لابن سينا, وتنقل في عدد من الأقطار والأقاليم والعواصم , ولهذا كله أثر في رباعياته , وفي فلسفته.
- ومذهب الخيام في الحياة هو مذهب الطبيعيين الذين عرّفهم الغزالي في ( المنقذ ص 161 ) بقوله : (( هم الذين يقرون بخالق حكيم , ولكن يرون أن النفس تابعة للبدن , وأنها تنعدم بانعدامه , فهم يجحدون الآخرة وينكرون القيامة والحساب والجنة والنار لأن المعدوم لا يعود )) وقد أشار إليهم القرآن الكريم في سورة الجاثية ( الآية 23 ) بقوله : ( وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا , نموت ونحيا , وما يهلكنا إلا الدهر).
ويترتب على القول بمذهب الطبيعيين أمور منها: أن الحياة التي يحياها الإنسان على سطح الأرض هي حياته ولا حياة له بعدها. وهي حياة قصيرة سريعة يسبقها عدم ويتلوها عدم وأن الكون خالد , بخلاف الإنسان الذي يصير إلى الفناء، ولئن كان الجنس البشري خالداً فإن الفرد ـ وهنا المأساةـ زائل عارض , شأنه شأن الأعشاب التي تنمو ثم لا تلبث أن تجف فتذروها الرياح , أو الأسماك التي تعيش في أعماق المحيطات تنمو وتكاثر وتصطرع , ثم لا يلبث الموت أن يعصف بها, ونحن ـ معشر البشرـ نعيش ونفرح ونحزن ونكافح ونبني ثم لا يلبث الموت أن يعصف بآمالنا ويعصف بنا . وكم ننفعل ونتأثر ونفكر وندبر فإذا الموت يبتلع كل أولئك. فنغادر الدنيا ونرحل عن الوجود ونُمحى من صفحة الحياة لنغدو عدماً أو وهما أو مجرد ذكرى.

وأمام هذا المصير الفاجع والنهاية الرهيبة لا يجد الخيام إلا الإذعان والخضوع لمشيئة القدر . ويرى أن الحل يكمن في اغتنام تلك اللحظات السعيدة التي تتيحها لنا الحياة. أما الحزن فلا فائدة فيه ولا جدوى منه :

يا نفس قد آدك حمل الحزن يا روح مقدور فراق البـدن
اقطف أزاهير المنى قبل أن يجف من عيشك غض الفنن

وإحساس الخيام بالزمان إحساس قوي واضح , فهو يرى أن عمر الإنسان – مهما امتد وطال – قصير كالحلم , كاذب كالسراب:
كنا فصرنا قطرة في عبـاب عشنا وعدنا ذرة في التراب
جئنا إلى الأرض , ورحنا كما دب عليها النمل حينا وغاب

ويصور لنا حركة الزمان وتعاقب الأيام في سرعة خاطفة من خلال حديث جرى بين صف من دنان الخمرة:

رأيت صفاً من دنان سرى ما بينها همس حديث جرى
كأنها تســـأل أين الذي قد صاغنا أو باعنا أو شرى؟!

ومما يزيد الإنسان حزناً وغماً أن هذا القدْر الصغير الذي أتيح لنا من العيش يمضي كلمح البصر , ينفلت من بين أيدينا قبل أن نحقق فيه ما نصبو إليه , ولو قدراً تافهاً من آمالنا وطموحاتنا:
الدهر لا يعطي الذي نأمـل وفي سـبيل اليأس ما نعمل
ونحن في الدنيا على همها يسوقنا حادي الردى المعجل

ويلح الخيام على فكرة سرعة الزمان وقصر الحياة، ويرى ذلك ماثلاً بارزاً في كل شيء , فصياح الديك ما هو إلا بكاء على يوم مضى , وعويل على عمر انقضى:

أتسمع الديك أطال الصياح وقد بدا في الأفق نـور الصباح
ما صاح إلا نادباً ليلــةً ولّت من العمر السريع الرواح

وتجاه هذا الوضع الأليم, وهذا المصير الفظيع , لا يرى إلا الهرب من التفكيروالعكوف على الشراب , مخرجاً مؤقتاً من الأزمة , وحلأً مناسباً للتخفيف من العذاب:

سمعت صوتاً هاتفاً في السحر نادى من الحان غُفاة البشر
هبوا املؤوا كاس الطلى قبل أن تفعم كاس العمر كف القـدر
فكم توالى الليل بعد النـهــار وطـال بالأنجم هـذا المدار!
فامش الهوينا إن هذا الثــرى من أعين ساحرة الإحـورار

ومما لا ريب فيه أن الخيام يقول بمذهب الجبر , فالإنسان عنده مسير كالريشة في مهب الريح, لا حول له ولا طول , تتقاذفه كف الأقدار , جاء إلى الحياة بغير إرادته , وسيغادرها بغير مشيئته , وحتى حياته كتبت سلفاً وقّدرت مقدماً :
هبطت هذا العيش في الآخرين وعشت فيه عيشة الخاملين
ولا يوافيــني بمــا أبتغـي فاين مني عاصفات المنون؟!

ومفهوم الخيام عن ( الخالق) مفهوم عجيب , فهو لا ينكره أو يجحده, بل يقر بوجوده بيد أن الله – كما يلوح في رباعياته- كائن سلبي أبرز صفاته العفو والغفران.
ويلوح لي أن الخيام كان في أعماقه ملحداً جاحداً , لكنه أبقى على الله , لينفي عن نفسه تهمة الإلحاد والزندقة , وليتفادى نقمة العامة , ولعله كان متأثراً بالزرادشتية التي تقول بوجود قوتين تتحكمان بمصير الكون والبشر، هما النور والظلام , أو الخير والشر , ولكنه لا يعبر عن ذلك بصورة مباشرة , بل ينسب الخير إلى الله , وينسب الشر إلى القدر. ومثل هذا نجده عند المعري , وعند المتنبي من قبله . ولا عجب فالإسلام أيضاً يجعل الإنسان رازحاً تحت وطأة قوتين هما : الله ( رمز الخير ) وإبليس ( رمز الشر) ولكن الإسلام لا يرفع ابليس إلى مقام إله, وإن كان يترك له دوراً خطيراً هو دور الإغواء والإضلال والإفساد.

ولو أردنا أن نقف على الدور السلبي الذي نسبه الخيام إلى الخالق لقلنا: إن الخيام يقصر دوره على العفو والمغفرة ومحو الآثام . ولا يُعقل أن يكون ظالماً أو جائراً .. فكيف يحاسب الإنسان على ما اجترح من آثـام, أو اقترف من ذنوب . وهو الذي صاغه ضعيفاً أمام الشهوات؟؟ وكيف يحاسبه على شيء كتبه له وقدّره عليه؟!

كان الذي صورني يعلـم في الغيب ما أجنـي وما آثم
فكيف يجزيني على أننـي أجرمت , والجرم قضاً مبرم؟!

والله – عند الخيام- سر مغلق , ولغز مبهم، يعجز عقل الإنسان عن فهمه وعن الإحاطة به , وليس يُعقل أن يتخلى عن عليائه ويتنازل عن كبريائه فيعمد إلى حساب عبيده الضعفاء, وهم صنعة يديه:

يا من يحار الفهم في قدرتك وتطلب النفس حمـى طاعتك
أسكرني الإثـم ولكننـــي صحوت بالآمـال في رحمتك

أما القدر فهو كائن جبار مهيمن يمتاز بالقسوة والعنف ؛لأنه يسمع صيحات الأشقياء من البشر فلا يبالي ولا يكترث, يحكم عليهم بالفناء ويعصف بأمالهم وأمانيهم كأنه مارد يحرك بقبضته حجر الشطرنج حيث يشاء:

وإنما نحن رخاخ القضاء ينقلنا في اللوح أنى يشاء
وكل من يفرغ من دوره يُلقى به في مستقر الفناء
نعم خلق الله الإنسان, ولكنه أدار بعد ذلك له ظهره, تاركاً للقدر دور التكدير والتنغيص , وإلا فما معنى عيش المرء محروماً في عالم يمور باللذات ويفيض بالمباهج :

القلب قد أضناه عشق الجمــال والصدر قد ضاق بما لا يقال
يا رب.. هل يرضيك هذا الصدى والماء ينساب أمامـي زلال

وما معنى أن يمنح الإنسان إرادة وهو مغلول بإرادة القدر التي لا تُغلب ولا تكسر؟ وما فائدة إرادته وحريته واختياره إذا كان قدره قد كتب سلفاً , ومصيره قد عرف مقدماً؟!

خلقتني يا رب ماء وطيــن وصغتني ما شئت عزاً وهُـون
فما احتياجي والذي قد جرى كتبته يا رب فـوق الجبيــن؟

ثم إن الله قد زود الإنسان بالعقل , ولكن ما فائدة هذا العقل إذا كان محدوداً قاصراً عن فهم أسرار الكون ؟! إن وجود العقل لدى الإنسان ليس مزية له , كما يتوهم بعض السذج بل سبب عذابه . وليته حرم من نعمة االعقل وعاش كالأنعام يأكل ويرتع ويموت , وهو غافل عما يجري:

حار الورى ما بين كفر ودين وأمعنوا في الشك أو في اليقين
وسوف يدعوهم منادي الردى يقول : ليس الحق ما تسلكـون

إن إعمال الفكر , وإجالة النظر في أسرار الوجود وألغاز الكون لم تعد على صاحبها إلا بالعناء والشقاء. وليت العقل تمكن من إسعاد الإنسان . بل ليت الانسان عاش بلا عقل, فما قيمة عقل يفكر ويختار , وقد نسجت مصير صاحبه الأقدار ؟:

لا تشغل البال بأمر القدر واسمع حديثي يا قصير النظر
تنحّ واجلس قانعاً وادعاً وانظر إلى لعب القضا بالبشر

وما جدوى النشاط البشري . وفيم يتسابق المتسابقون , ويكدح الكادحون ويلقى الناس ما يلقون من نصب وعناء في سبيل الحصول على الأموال والقصور والجواري ؟؟ إن نشاطهم ضرب من العبث:

يا طالب الدنــيا وُقيت العثار دع أمل الربح وخوف الخسار
واشرب عتيق الخمر فهي التي تفك عن نفسك قيد الإســار

والعاقل من البشر – في رأي الخيام ـ هو الذي قنع بما قُسم له , ورضي بما كُتب له . فالعاقل من الناس من خرج من حلبة السباق, وقضى حياته في سكينة وهدوء:

الله قد قدر رزق العبـاد فلا تؤمل نيل كل المراد
ولا تُذق نفسك مرّ الأسى فإنما أعمارنا للنفــاد

ويرى الخيام أن البشر على قدر عظيم من التناقض . فيهم الزاهد الورع والخليع المتهتك . ومنهم الذكي الألمعي , ومنهم الأحمق المأفون، ولكنهم في النهاية متساوون, لأنهم جميعاً صائرون إلى التراب ،لا فضل لأحد منهم على أحد , لأن كلاً منهم لم يختر عقله , ولم يختر دوره , ولم يتخذ لنفسه موقفه. كلهم في الطريق إلى غاية أُعدت سلفاً وحُضّرت قبلاً . غاية نحن نجهلها لا يعلمها إلا الله:

معاقرو الكأس وهم سادرون وقائمو الليل وهم ساجدون
غرقى حيارى في بحار النهى والله صاح والورى غافلون

والتفكير من أشد أسباب الشقاء , فطوبى لمن حُرم نعمة العقل واستراح, وعاش مستمتعاً في جهله , غارقاً في غفلته:
لن يرجع المقـدار فيما حكـم وحمــلك الهـمّ يزيـد الألــم
ولو حزنت العمر لـن ينمحي ما خطه ـ في اللـوح ـ مر القلم

إن هذا الإغراق في التشاؤم بارز أشد البروز في رباعيات الخيام. وهو تشاؤم يقوم على أساس منطقي, ولكن مع كل هذا التشاؤم يبقى هنالك أمل خافت نلمحه دائماً عند الخيام . وهو الثقة بعفو الله , واليقين بترفع الله عن الانحدار إلى مستوى العباد, والنظر إلى هفواتهم وأخطائهم:

طبائــع الأنفس ركّبتهـا فكيف تجزي أنفسأ صغتها؟
وكيف تفني كاملاً, أو ترى نقصاً بنفس أنت صورتهـا؟

وهو على غرار أبي نواس يستخدم المنطق في إقناع البشر بأن الله سيعفو عن خطاياهم , ويتجاوز عن ذنوبهم, ويصفح عن آثامهم:

عبدك عاص أين منك الرضاء؟ وقلبه داج فأيــن الضيـاء؟
إن كانت الجنة مقصـــورة على المطيعين.. فأين العطاء؟

وإذا كان صلاح الإنسان وضــلاله بيد الله فكيف يعاقب رجلاً ضالاً:

أنا إن لم أحس السلافة يومــاً كان للهم في فؤادي دبيــب
قيل لي: تب، فقلت: إن كان ربي لم يشأ توبتي , فكيف أتوب؟؟


على أن الخيام وإن كان مغرقاً في تشاؤميته ، ممعناً في سوداويته، فإنه يحس بأوجاع إخوته البشر، فهولا يرى بداً من إسداء النصيحة, وتقديم العون , ومحاولة التخفيف من حجم اللوعة. كان يرى أن الإنسان قادر على الاستمرار في الحياة بأمور منها :

1) نبذ التفكير في قضايا الغيب , والإخلاد إلى الصمت , ذلك لأن العقل محدود قاصر عن فهم الأسرار , ثم أن الحياة قصيرة , فلا ينبغي أن نضيعها في الجدل العقيم والتفكير السقيم :
حار الورى ما بين كفر ودين وأمعنوا في الشك أو في اليقين
وسوف يدعوهم منادي الردى يقول : ليس الحق ما تسلكون

2) يرى الخيام أنه لا يجوزالنظر إلى الناس من زاوية مؤمن وكافر , فكلهم عباده, وكلهم مسير بقضائه. وقد يتساوى الورع التقي بالعاهرة الفاجرة إذا أميط عنه برقع النفاق والرياء. يقول الخيام : " يا مفتي البلد .. أنا أحسن منك عملاً , ومع كثرة سكرنا فأنا أصحى منك .. أنا أشرب دم العنقود , وأنت تشرب دم الناس .. فأيّنا شرّاب الدماء؟؟"


وقال أيضاً : "أقبل شيخ معمم على عاهرة نشوى فقال لها : أنت كل ساعة تتعلقين بخليل ؟! فقالت له : إن ما قلته صحيح . ولكن هل أنت أنت كما تظهر للناس؟؟"

3) عدم التفكير في الماضي لأنه ولى وأدبر , وعدم التفكر في المستقبل لأنه طي الغيب،وليس لنا إلا استغلال اللحظة الحاضرة، وإلا نفعل ذلك نضيعها ونخســـرها:
لا توحش النفس بخوف الظنون واغنم من الحاضر أمن اليقين
فقد تساوى في الثرى راحــل غداً وثـاو من ألوف السـنين

4) علينا ألا نتعصّب لدين , وألا ننتصر لمذهب , وألا نخوض في جدال أو نقاش ؛ فذلك لا يجدي فتيلاً . وما بالنا نبحث عن الحق أو اليقين ونحن صائرون إلى الزوال؟؟
وليس هذا العيش خلداً مُقيم فما اهتمامي : محدث أو قديم
سنترك الدنيا , فما بالنــا نضيع منها لحظات النعيـم ؟!

5) علينا ألا نتعلق بالآمال ونجري لاهثين في سبيل المال . وطوبى لمن قطع حبل الرجاء وعاش في رضى وقناعة ؛ لأن كل نعيم لا محالة زائل ، وكل شيء ما خلا الله باطل:
حتام يغري النفس برق الرجاء ويفزع الخاطر طيف الشقاء؟!

6) على الإنسان أن يستسلم لأمر القضاء ولا يحاول ـ اعتماداً على عقله الضعيف ـ فهم أسراره فذلك لن يجديه نفعاً ولن يزيده إلا عذاباً وحيرة :
الدهـر لا تجري مقاديـره بأمـرنا , فارض بما حكــم
وما غناء البحث عن سـره ما دمت تدري أنك ابن العدم؟!

7) ولا ُتصغ إلى الذين يدّعون العلم و المعرفة, و يزعمون أنهم وقفوا على الأسرار و اطلعوا على الحقائق ... فكلهم غارق في الجهل تائه في بيداء الضلال:
أهل الحجا والفضل هدي العقول قد حاولوا فهم القضاء الجليل
فحدثـــــــونا بعض أوهامهــــــم ثم احتواهـم ليـــــل نوم طويل

و إذا صح أن هنالك حسابا و ثوابا وعقابا فأنت أيها الآثم أجدر بعفو الله, و أنت أكثر من غيرك تلذذا به,؛إذ لا حلاوة لإيمان لم يأت بعد ضلال:
يا نفس ما هذا الأسى والكدر؟ قد وقع الإثم وضاع الحذر
هل ذاق حلــو العفــو إلا الذي أذنب, والله عفـا و اغتفر؟

9) ولا تلتفت إلى من ينهاك عن معاقرة الخمر و معاشرة الحسان, لأن من ينهاك عن هذه الأمور- لو
تهيأت له- لخلع فيها العذار . و كل من يدعي الزهد والاحتشام فإنما يفعل ذلك لعلة؛ فلا
تلق إليه بالا، ولا تحفل بما يقول:
خير لي العشق و كأس المدام من ادعاء الزهد والاحتشام
لو كانت النــــــار لمثلي خلـت جنات عدن من جميع الأنام

10) وثق برحمة الله التي وسعت كل شي؛ فلا يعقل أن يحاسبك الخالق على شيء كتبه لك وقدره
عليك؛ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؟؟
قالوا : لدى الحشر يكون الحساب فيغضب الله الشـــــديد العقاب
و ما انطوى الرحمـــــــن إلا على إنالـة الخير و منح الـثـــــواب




11) ولا تفكر في شؤون القدر, وأمور الغيب ؛ فإنك عاجز عن فهم أسرارها , ولو أنفقت كل سنوات
حياتك. و كم من متفكر و متأمل ضيع عمره، و أفنى زهرة أيامه, فلم يظفربشيء!
أفنيت عمري في اكتناه القضاء و كشف ما يحجبه في الخفاء
فلم أجـــد أســراره و انقضـــى عمري وأحسست دبيـب الفناء

12 ) وأفضل شيء تصنعه في هذه الحياة الزائلة هو اغتنام اللذات واقتناص المتع، وأوصيك بالخمرة لأنها أعظم نعمة وخير معين على نسيان الهموم والهرب من آلام الدنيا:
مذ أبدع الكون العليم السمبع لم يُر مثل الخمر شيء بديع
عجبت للخمار هل يشــــتري بماله أحســـــن مما يبيع ؟ !

وهي نعم الصديق لأنها تدخل على قلبك السرور وتنفي عنك الهموم:
صبّ من الإبريق صافي الدماء واشرب وهات الكأس ذات النقاء
فليس بيــــن الناس من ينطوي على الذي في صـدرها من نقــاء

13) وعليك بالحب؛ فإن الحياة ــ إذا خلت منه ــ صحراء قاحلة:
أولى بهذا القلب أن يخفقـــــا وفي ضرام الحـــب أن يحـــرقا
ما أضيع اليوم الذي مـرّ بي من غير أن أهوى وأن أعشـقا !

14) وعليك بالتواضع وخفض الجناح ؛ لأنك صائر إلى التراب، منته إلى العدم، والموت آت على
كل شيء: الكبير والصغير ،السوقة والأمير ، ولو نبشت التراب لرأيت جماجم الملوك معجونة
بأرجل الفقراء، وربما تحول ذلك التراب إلى طين تُصنع منه دنان الخمور:
رأيت خزّافـا رحـاه تـدور يجدّ في صنع دنان الخمور
كأنه يخلــط في طينهــــا جمجمة الشاه بساق الفقير

15) وليس لك في هذه الدنيا الفانية سوى تلك اللحظات العابرة من السرور؛ فحذار أن تضيعها ؛ لأنك إذا ضيعتها ولت إلى الأبد ولم تعد :
بســــــتان أيامك نامي الشجر فكيف لا تقطــُف غضّ الثمـر ؟!
اشرب ؛ فهذا اليوم ــ إن أدبرت به الليـــالي ــ لم يُعــده القــدر


تلك هي فلسفة الخيام، عرضتها بحلوها ومرها ، بصدقها وكذبها ، صحيح أنها تنطوي على سلبية وتشاؤم
ولكنها لا تخلو من توقد في العاطفة وإنسانية في المضمون.

1 Comments:

Blogger Midiya said...

🙏🏽🌱

5:33 م  

إرسال تعليق

<< Home