مصرع الفنــــان
مصرع الفنــــان
د. عبد الرحمن دركزللي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في ديوان عمر أبي ريشة قصيدة رائعة، لا أحسب أن شاعراً عربياً أبدع مثلها ، تلك هي قصيدة "مصـــرع الفنـــان ". التي كتبها سنة 1936. وروعة هذه القصيدة ناجمة في رأيي عن ثلاثة أسباب، أولها أنه شيد – في هذه القصيدة – بناء فنيا متقناً محكماً يضارع المســــرحيات في بنائها، والثاني أنه ارتقى بفنه من الخاص إلى العام، ومن المحدود إلى المطلق، ومن الفرد إلى المجتمع. والثالث أنه نثر في جنباتـــــها صوراً فنية بديعة ، ولا عجب فأبو ريشة ـــ بالإجماع ـــ أعظم الشـــــعراء صوراً وأخصبهم خيالاً.
أما الفنان فهو "كميل شمبير" عازف على آلة العود ، معروف في حلب ، وكان صديقاً للشاعر. لم أحــــــاول أن أرجع إلى كتاب يترجم لهذا الرجل ، ولا إلى مصدر يتحدث عنه ؛ لأن القصيدة تغني عن ذلـك؛ فنحن-من خلالــــها- نعلم أن كميلاً مـــات في سن مبكرة ولم يُعمّر طويلاً، مات وهو يؤدي رسالته في الفن، وإذا توخينا الدقة قلنا: إنه مات وأنامله على الأوتار.
ويبدو لنا كميل ــ من خلال النص ــ فناناً عبقرياً، رهيف المشـــــاعر، عميق الإحساس ،على قدر عظيم من الطموح، ولكن القدر فجعه وامتحنه؛ إذ عاش في بيئة لم تقدر فنه، وجاء في زمن غير زمانه، فعانى الفقر المدقع، ولقي الإهمال مع أنه كان يريد الارتقاء بالموســــــــيقا والنهوض بالفن، والظاهر أنه ــ تحت وطأة الظروف ــ تخلى في آخر أيامه عن طموحه وسعيه واضطر إلى العمل في الملاهي الرخيصة بغية تحصيل لقمة العيش، ولا عجب فالفنان لحم ودم، وهو بحاجة إلى المال يُقيم به أوده ، ويسد مفاقره. على أنه ــ وإن تخلىَ في الظاهر عن رسالته السامية وانحدر إلى بؤر الفساد ــ لم ينس طموحه القديم. ونســـــتخلص من القصيدة أن كميلاً بعد أن فُجع في فنه عَمَدَ إلى الخمرة يعب منها، وإلى الدخان والسهر، وهذه الأمور، إذا اجتمعت بالفقر والقهر، قصفت العمر، واختصرت الحياة، وأطفأت ما تبقى من الأنفاس قبل حلول الأوان، ومما زاده شقاءً أنه كان ــ على بؤسه وشظف عيشه ــ موضع الحسد تأكيداً لقول الشاعر: حتى على الهم لا أخلو من الحسد.
ومن الجدير بالذكر أن قصيدة "مصرع الفنان" مؤلفة من ثمانية وستين بيتا،ً ومقسمة إلى ستة أقسام، وهي منظومة على البحر الخفيف، وقد التزم الشاعرحرفاً معيناً ليكون روياَّ لها في كل قسم من أقسامها، كما ختم كل قسم ببيتين من مجزوء الخفيف جعلهما بمنزلة التعليق على محتويات القسم بأكمله.
القسم الأول
في هذا القسم يرصد لنا أبو ريشة الحالة التي كان عليها الفنان حين امتدت إليه يد الردى، فهو رجل لم يأخذ قســــــــطه من الدنيا، بل رحل عن الحياة وعن عشاق فنه كما يرحل الحلم عن عيون الحالم؛ لذلك كان لموته وقع عظيم وتأثير بالغ، ومع أنه كان شقياً منكوداً فقد غادر الدنيا بوجهه باسم حالم:
نــام عــــن كــأســــــه وعــــــن أحـبـابـــــــــــه
قــبــــــل أن يـنـقـضـــــي نـهــــــار شــبــابـــــهْ
نــام عــــن سـكــــــرة الــحـــيــــاة وقــد جـــفّ
شـــــــراب الـــسُــــلـوان فــــــي أكـــــوابـــــه
بــســـمـاتُ الـــرضـــا عـــلـــــى شــفـتــيـــــه
وشــــــتـاتُ الـــرؤى عـــلـــــى أهــــدابـــــه
ولابد لنا ههنا من التساؤل عن معنى هذه البسمات. أهي بسمات الفرح بالخلاص من عذاب الدنيا وألام الحياة؟ أم هي بسمات السعادة بلقاء الموت؟. أم هي بســــمات الاستهزاء والسخرية من المجتمع الذي جهل معنى الفن ، ولم يدر ما رســــالتهُ وما مكانته؟ إنها لعمري بسمات تُشبه بسمة "الجوكندا" التي حار في أمرها النقاد.
بعد ذلك يقدم لنا أبو ريشة لقطة فنية رائعة لموكب الجنازة، فيحلق في سماء الإبداع، إذ يصور لنا الليل كاهناً يرتدي مسوح الحزن الســــــوداء، ويقود موكب الجنازة المؤلف من نجوم الليل وقد حولها الشاعر إلى فتيات يرتدين حمر المآزر ويردّدن ألحان الفقيد بجلال وخشوع. إن هذا الموكب ــ في رأي عمر-ــ هو الموكب اللائق بمثل هذا الفنان المبدع، وما هو إلا تكفير عن التقصير والجحود اللذين صدرا عن الناس ممن لا يعرفون قيمة الفن ولا يقدرونه حق قدره. وهكذا فالليل ــ على جلالـــه ـــ يشيّعه، والنجوم ــ على شرفها ورفعة قدرها ــ تحمله وتمضي به إلى مثواه الأخير، و ما هذا المثوى إلا "هيكل الفنــون" حيث يتحول جثمان الفنان إلى سراج وّهاج ، جذوته لا تخمد، وأنواره لا تنطفىء:
وبــنـــــات الـغـــــــروب تـــســـكــب فــــــي أذْ
نـيــــهِ أصــــــداءَ عُــــــودِه وربــــــــابــــــــهْ
لا بـــســــــــاتٍ حُـمـــر الـــمـــــــآزر مــــــرّتْ
ريــشــــةُ الــــلـيــلِ فــوقـــهــا بــخــضــابــــــه
يـــا بــنــــــاتِ الـــغــــروب قـــد نـفـّـض الــلــيـ
ـــــــلُ عــلـــى الـكــونِ حــالــكـاتِ نـقـابـــــه
فاحملي الراحلَ الغريبَ وسيري
بــــالــزغــاريـــد ســــلــوةً لاغـــتــــرابــــــه
وادخلي هيكل الفنون وأبقيـــــــ
ــــــهِ سِــــراجـــاً يُــــضــيء فـي محرابـــــه
إن هذا الموكب الضخم ليس سوى تكفير عن الإحساس بالذنب الذي تستشعره الأمة الجاهلية تجاه ما فرطت في حق فنان مبدع من أبنائها، وقد جاء رد فعل قامت به السماء تجاه ما ارتكبه أهل الأرض من عقوق وإثم بحق الفنان الأصيل.
القسم الثاني:
في هذا القسم ينكص أبو ريشة إلى الوراء ليحدثنا عن الفنان العظيم الذي حاول الارتقاء بفن الموسيقا ،وسعى إلى السمو بها ولكن الدنيا تجاهلت سعيه وأنكرت فضله وضنت عليه بأتفه أسباب العيش مع أنها أكرمت الفنان المزيف ومدت إليـــه ذراعيها. فالفنان الأصيل في الشرق يظل مضطهدا منبوذا لأنه حاول الخروج على المألوف ، ولأنه لم يساير الغوغاء في
جهالتهم. إن الناس في الشرق لا يعلمون أن الفن رسالة عظيمة هدفها السمو بالنفس وتهذيب الأخلاق، بل يرون أن الفن سرور عابر، ونشوة رخيصة تُباع في الملاهي والحانات ، وهكذا يعيش الفنان الأصيــل غريباً تماماً عنهم محروماً من كل تقدير، لا يعرفون مكانته إلا بعد أن يموت بقرون ودهور.
ويصور لنا أبو ريشة معاناة الفنان الحقيقيّ تصويراً خيالياً رائعاً، فطريق الفن قاتمة مظلمة ، والفنان يسير فيها حاملاً شموع الأمل، ولكن صخورها تدمي قدميه، ورياحها تطفئ شموعه، وأفاعيها تنهشه، وأشواكها تمزق لحمه. فهو ضائع خائب:
مــلّ دنيـــاه بـــعـــد مــــا ســئـــم السَّـــــيْــ
ــــرَ علــــيــهــا وضــــاق فـــي بَلْوائـــــهْ
مَــوْرِدُ الـفــن مُــظــلِـــمُ لــــــم يــــصــــــوّبْ
فــوقــه الشــــرق مــشــعـــلا من ضيائـه
ســـــار فـيــــه وظلـمـــــة الــيــــأس تُــطـفي
تحـــــت أنــفــاســــه شــمـــوعَ رجـــائـه
وأمام قسوة الأقدار، وشراسة الحياة، وقسوة المجتمع، لا يستطيع الفنان أن يصمد، بل لابد له أن ينهـــــار تحت ضربات القدر، وهكذا يصوره الشاعر لنا محطماً مهشماً حالته تدعو إلى الأسى، شأنه شأن رجل دفن أبناءه ورجع من المقبرة:
فـــحنــــى رأســــه الــكئـــيــــب وألـــقــــــى
بعــصــــاه، وضـــج فــــــي بـــأســائـــه
وانــثــنــــى عـــائـــــداً يــشـــيـــّـع حـــلــمـا
يــتــلاشــى مـــن مــقــلــتــَـيْ نــعــمائـه
عـــــودةَ الــثــاكـل الــحـــزيــن وقـد نفـــــ
ـــض كــفـــيـــــه مــــن ثـــــرى أبـــنائه
وإذا فأبو ريشة يرى أن الفنان المرهف الحساس مضطر إلى الانسحاب في مثل هذه الحال ؛لأن الوقوف في وجــــــه العواصف لا يجديه نفعاً، والصبر على الجوع والحرمان أمر لا يطاق، وهكذا يمهد للقسم الثالث.
القسم الثالث:
في هذا القسم نقف على الفنان وقد انهار وانهزم، فقص جناح الطموح، وطوى شراع الأمل، وهجر المثاليات، وما قيمة المثاليات في زمان تافه سخيف؟!.. إنها ضرب من الجنون. مأســــــاة كميل شمبير هي أنه ولـــد في عصر غير عصره، وجاء في غير زمانه ، زمان لا تقدير فيه للفن الراقي ، ولا قيمة فيه للفنان الأصيل، ولو تأملت حالة الفن فيه لوجدتـها تبعث على الأسى: غانيات وسكارى وأقداح وحانات يؤمها الموسرون فقط لشـراء لحظات من الســــــرور يبيعهم إياها فنانون مزيفون عرفوا كيف يســــــتفيدون من جهل الناس،هنا نجد كميلا ينزل إلى أرض الواقع فيعمل في حانة رخيصة ؛ لكي يظفر ببعض القروش التي يسد بها رمقه . صحيح أنه حظي بالتصفيق والإعجــاب، لكنــه ظل يتقطع في داخـلـــه ويتمزق في أعماقه، إنه يضحك للناس، وينثر على مســــامعهم الألحان، ولكنه يبكي من غير دمـــــوع :( كالطير يرقص مذبوحاً من الألم ). ولئن حنت عليه الحانة وضمته إلى صدرها فذلك ؛ لأنها رأت فيه فنـاناً متميزاً ما سبق لها أن ظفرت بمثله.
ضـــاق فـــي وجـــهـــه الفضــــاء وما فــي
قـــوســــه نــبــلـــة لــصــون كـــيـانـــهْ
فــحــوتــــه فـــي صــدرها الحـــانة الحمـــ
ــــراء خــــــوفـــاً عــليــه مــــن أحزانه
فــتــغــنـــى بــعـــطــفــــها وحـبـــــاهــــــا
بالــشـــهـــي الــفـــتـــــان مــن ألــحانه
وهــــوى يــنــــحــــر الــكــــآبـــة نــحـــراً
بــيــــن نـُـعــــمى أوتـــاره وحِـــســـانه
وهكذا تخلى الفنان عن رسالته السامية، لقد خلع معطف الوقار، وباع مثالياته، وقرر الهبوط إلى الواقع:
وانـــبــــرى يـكــرع الــمـــدامـــة حتى
هــــرئــــت لـثــتــــاه عــــن أســــنـانه
ويـعــــب الـــدخــــان حــتـــى اسـتحالـت
رئــتــــــاه مـجــامــــراً لــدخـــــــانــه
خــالــعــــاً مـــعـــطــــف الــوقار مـكبــــاً
فـــــوق أهــوائـــــه طـــلــيـــق عنانه
القسم الرابع
في هذا القسم يتصدى أبو ريشة للدفاع عن الفنان الأصيل إذا سقط وانحدر وتمرغ في الوحل، فلو أنه وجد من يحميـــه ويؤويه ويكفيه لما تخلى عن طموحه ولما كسر سيفه وباع فنه، ولكن ماذا يصنع وبضاعة الفن خاسرة وسوقها كاسدة؟ أيموت جوعاً أم يساير الزمان ويجاري أهله؟
على أن الفنان ــ وإن انغمس في مستنقع الحياة، وباع فنه، وضحك للغانيات وبائعات الهوى والســـكارى ـــ عاجز حتما عن استمراء هذا النوع من العيش. أما إقباله على الخمرة والتدخيــــن ففرار من الواقع وهرب منه. وهو هرب مؤقــــت وسكر عابر، يفر عبره من التفاهة التي صار إليها، إلى عالم المثــل الذي هو عالمه الحقيقي. إنه حيــــن يتجرع الخمرة يطير على جناح الوهم، ليتأمل عالم النقاء والصفاء والفن الراقي الذي يعيش من أجله؛ فهوإذا يدمر جسده لينقذ روحه:
يـــالــهــــا ســـكــــرة ! لــقـــد أطــلـقــتـــه
مـــــن قــيـــــود الـــورى ومــــن أتـراحه
غــســلـــت عــــن فـــؤاده ألـــــم الــعيــ
ـــــــش، وألـــوت بــبــــاقـــيــــات كفاحه
وأرتـــه طــيــــوف آمـــالـــــه الـغُــــرّ
عـــذارى يــطـُــفـــــن فــــوق وشــــاحـه
حــــامـــــلات عـلــــى ســـواعــدها البيــ
ض أكــالــيــــــــــل فـــوزه ونـجاحـــــــه
هي إذا لحظات من السكر يصحو بعدها الفنان ليرى ما حوله من قيء وعفونة وقذارة. إن الخمرة ليست حلا لمشكلته ولا علاجاً لآلامه.
ومن الأمور التي أبرزها أبو ريشة للعيان أن الفساد الذي قد يعترى الفنان في الظاهر لا يمكن أن يمحو طهره الكامـــن:
لا تــــلــــومــــوه فــــــي ضـــلال خطــاه
رب رجــس الـــطـــهـــرُ مـــن أركــانــــــه
القسم الخامس
يؤكد أبو ريشة في هذا القسم فكرة أن الفنان العظيم ــ وإن حملته الأقدار على بيع مثالياته ــ وأكرهته على نســــــــيان طموحه، عاجزة كل العجز عن إخماد النور في أعماق فؤاده، وغير قادرة على قهر روحـه المتوثب. ولئن تلوث الفنان أمدا من الزمان فلابد له من أن يثور على واقعه. إنه غارق في الوحل ولكن عينيه عالقتان في الســــــــماء ، لقد أفـاق كميل من سكره فرأى ما هو فيه من ذل وهوان؛ فاختلج وارتعش ثم لم يلبث أن انتفض وأسلم الروح إلى بارئها وآثـر الموت على الحياة:
فــغـــفــــا غـــارقــــا بـسـكـرته الهـــــو
جــــاء والـــــروح مـمـعـن فـــي رواحه
قــبـــل أن يــطــلـــع الـصــبــاح عــلـيـه
ويـــرى الـحــــلـــم كــــاذبــا في صباحه
هــــكــــذا الـــوهــــم لـلــمــخـبط في اليأ
س ضمــــاد وبــلـســـــــم لــــجـــراحــه
ويمضي بعد ذلك أبو ريشــــة، فيصور لنا عناصـــــر الطبيعة، وهي تنوب عن البشر، في التكفير عن الذنوب، فما إن سمعت بموت الفنان حتى هرعت إليه ساكبة عطفها فوق جثمانه. فالفجر يصب عليه شـــــآبيب الرحمة، والليل يذرف دموع الحزن:
زحـــف الــفــجــــر بــاتــئـــــاد كــنــســــــر
قــصــــت الـــريــــح مــــن طــــويــل جـناحــــه
وأتـــــى جــثــــة، فــصــب عـــلـــيـــــــــها
دفـــقــــــات مــــن عــــطــــفـــــه وســمــاحــه
والــنــــدى لــــم يــزل عـــلــيــــها دموعــا
ســــــلــن مــــن زفــــرة الـــدجــــى ونــواحـه
وهكذا فالشاعر يحرك عناصر الطبيعة لإنقاذ الموقف وإعادة التوازن ( إن الفنان المظلوم في المجتمع يجد من لدن الطبيعة عطفاً وحناناً ورحمة وإحساناً )
القسم السادس
في القسم الأخير من القصيدة يأخذ أبو ريشة في التفلسف وطرح التساؤلات: فهل يستريح الفنان بالموت من العناء والنكد؟ وهل ينتقل بعد هذا الشقاء إلى عالم حافل بالسرور والسعادة تعويضاً عما فاته في الدنيا؟
مـــــا أظـــــن الآلام فـــــي عــالــم الــــرو
ح تــــزجــــــي أشـــراكــهـــا لاصطــياده
قــــــد كـفـــــاه مــــا ذاق فـــي دنــيــــــــاه
مــن لـئــــام الــورى و مـــن حــســاده
وهكذا فأبو ريشة يرى أن الفنان الأصيل سيلاقي الجزاء الأوفى ويحظى بالنعيم المقيم، ولكن بعد انقضاء حياته ( وهذا عدل من السماء ) كما يرى أن الشرقيين عموماً مخطئون في احتفائهم بالفنان الأجنبي وتجاهلهم لمن بين ظهرانيهم من المبدعين. وكأني بالشاعر يُهيب بالناس أن يكرّموا أصحاب الإبداع في الحياة قبل أن يلفهم الردى ويشملهم الموت.
وفي ختام القصيدة يصور لنا الشاعر الأثر الكبير الذي يُحدثه الفنان الأصيل بعد رحيله، فبموت كميل انتهى عهد السرور وأظلمت الدنيا، وانتهت ساعات السعادة:
صـــفــحــة الـــحـــــب والـــهـــوى
والأهـــازيــــــج والــــنـغـــــــم
قــــد طـــــوتـــهــا يـــــــد الــــردى
فــــهـي فــــــــي حُـجــرة العدم
على أن الفنان ــ وإن زال بجسده، ــ خالد بذكراه، باق بفنه، وها هم أولاء أصدقاؤه المخلصون كلما اجتمعوا تركــوا له مكانا فارغا من المجلس؛ كي يجلس فيه وكأنه ما زال حياً، وإذا ضمهم مجلس الشراب كفوا عن احتسائه وسكبوا ما في كؤوسهم حفاظاً على عهده واحتراما لفنه، فهو حي خالد وإن رحل عنهم:
إنـمــا لـم تــــــــزل رفـــــاق لياليــــ
ـــه كــرامـاً عــلــــى عهــــود وفـــائه
تــجــمـع الخمــر شملهـــم فيخلــــو
ن فـــــراغ اتـكــائــه واســــــــتــنـاده
كــلمـــا مـــرّ ذكــــره قـلـــــبوا الكأ
س عـــلــى الأرض حــسـرة لافـتــقاده
وهكذا يكون الشاعر قد حقق التوازن المفقود في الكون من خلال إبراز جانب الوفاء والإخلاص للفنان الذي تنكر له أهله وظلمه عصره.
د. عبد الرحمن دركزللي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في ديوان عمر أبي ريشة قصيدة رائعة، لا أحسب أن شاعراً عربياً أبدع مثلها ، تلك هي قصيدة "مصـــرع الفنـــان ". التي كتبها سنة 1936. وروعة هذه القصيدة ناجمة في رأيي عن ثلاثة أسباب، أولها أنه شيد – في هذه القصيدة – بناء فنيا متقناً محكماً يضارع المســــرحيات في بنائها، والثاني أنه ارتقى بفنه من الخاص إلى العام، ومن المحدود إلى المطلق، ومن الفرد إلى المجتمع. والثالث أنه نثر في جنباتـــــها صوراً فنية بديعة ، ولا عجب فأبو ريشة ـــ بالإجماع ـــ أعظم الشـــــعراء صوراً وأخصبهم خيالاً.
أما الفنان فهو "كميل شمبير" عازف على آلة العود ، معروف في حلب ، وكان صديقاً للشاعر. لم أحــــــاول أن أرجع إلى كتاب يترجم لهذا الرجل ، ولا إلى مصدر يتحدث عنه ؛ لأن القصيدة تغني عن ذلـك؛ فنحن-من خلالــــها- نعلم أن كميلاً مـــات في سن مبكرة ولم يُعمّر طويلاً، مات وهو يؤدي رسالته في الفن، وإذا توخينا الدقة قلنا: إنه مات وأنامله على الأوتار.
ويبدو لنا كميل ــ من خلال النص ــ فناناً عبقرياً، رهيف المشـــــاعر، عميق الإحساس ،على قدر عظيم من الطموح، ولكن القدر فجعه وامتحنه؛ إذ عاش في بيئة لم تقدر فنه، وجاء في زمن غير زمانه، فعانى الفقر المدقع، ولقي الإهمال مع أنه كان يريد الارتقاء بالموســــــــيقا والنهوض بالفن، والظاهر أنه ــ تحت وطأة الظروف ــ تخلى في آخر أيامه عن طموحه وسعيه واضطر إلى العمل في الملاهي الرخيصة بغية تحصيل لقمة العيش، ولا عجب فالفنان لحم ودم، وهو بحاجة إلى المال يُقيم به أوده ، ويسد مفاقره. على أنه ــ وإن تخلىَ في الظاهر عن رسالته السامية وانحدر إلى بؤر الفساد ــ لم ينس طموحه القديم. ونســـــتخلص من القصيدة أن كميلاً بعد أن فُجع في فنه عَمَدَ إلى الخمرة يعب منها، وإلى الدخان والسهر، وهذه الأمور، إذا اجتمعت بالفقر والقهر، قصفت العمر، واختصرت الحياة، وأطفأت ما تبقى من الأنفاس قبل حلول الأوان، ومما زاده شقاءً أنه كان ــ على بؤسه وشظف عيشه ــ موضع الحسد تأكيداً لقول الشاعر: حتى على الهم لا أخلو من الحسد.
ومن الجدير بالذكر أن قصيدة "مصرع الفنان" مؤلفة من ثمانية وستين بيتا،ً ومقسمة إلى ستة أقسام، وهي منظومة على البحر الخفيف، وقد التزم الشاعرحرفاً معيناً ليكون روياَّ لها في كل قسم من أقسامها، كما ختم كل قسم ببيتين من مجزوء الخفيف جعلهما بمنزلة التعليق على محتويات القسم بأكمله.
القسم الأول
في هذا القسم يرصد لنا أبو ريشة الحالة التي كان عليها الفنان حين امتدت إليه يد الردى، فهو رجل لم يأخذ قســــــــطه من الدنيا، بل رحل عن الحياة وعن عشاق فنه كما يرحل الحلم عن عيون الحالم؛ لذلك كان لموته وقع عظيم وتأثير بالغ، ومع أنه كان شقياً منكوداً فقد غادر الدنيا بوجهه باسم حالم:
نــام عــــن كــأســــــه وعــــــن أحـبـابـــــــــــه
قــبــــــل أن يـنـقـضـــــي نـهــــــار شــبــابـــــهْ
نــام عــــن سـكــــــرة الــحـــيــــاة وقــد جـــفّ
شـــــــراب الـــسُــــلـوان فــــــي أكـــــوابـــــه
بــســـمـاتُ الـــرضـــا عـــلـــــى شــفـتــيـــــه
وشــــــتـاتُ الـــرؤى عـــلـــــى أهــــدابـــــه
ولابد لنا ههنا من التساؤل عن معنى هذه البسمات. أهي بسمات الفرح بالخلاص من عذاب الدنيا وألام الحياة؟ أم هي بسمات السعادة بلقاء الموت؟. أم هي بســــمات الاستهزاء والسخرية من المجتمع الذي جهل معنى الفن ، ولم يدر ما رســــالتهُ وما مكانته؟ إنها لعمري بسمات تُشبه بسمة "الجوكندا" التي حار في أمرها النقاد.
بعد ذلك يقدم لنا أبو ريشة لقطة فنية رائعة لموكب الجنازة، فيحلق في سماء الإبداع، إذ يصور لنا الليل كاهناً يرتدي مسوح الحزن الســــــوداء، ويقود موكب الجنازة المؤلف من نجوم الليل وقد حولها الشاعر إلى فتيات يرتدين حمر المآزر ويردّدن ألحان الفقيد بجلال وخشوع. إن هذا الموكب ــ في رأي عمر-ــ هو الموكب اللائق بمثل هذا الفنان المبدع، وما هو إلا تكفير عن التقصير والجحود اللذين صدرا عن الناس ممن لا يعرفون قيمة الفن ولا يقدرونه حق قدره. وهكذا فالليل ــ على جلالـــه ـــ يشيّعه، والنجوم ــ على شرفها ورفعة قدرها ــ تحمله وتمضي به إلى مثواه الأخير، و ما هذا المثوى إلا "هيكل الفنــون" حيث يتحول جثمان الفنان إلى سراج وّهاج ، جذوته لا تخمد، وأنواره لا تنطفىء:
وبــنـــــات الـغـــــــروب تـــســـكــب فــــــي أذْ
نـيــــهِ أصــــــداءَ عُــــــودِه وربــــــــابــــــــهْ
لا بـــســــــــاتٍ حُـمـــر الـــمـــــــآزر مــــــرّتْ
ريــشــــةُ الــــلـيــلِ فــوقـــهــا بــخــضــابــــــه
يـــا بــنــــــاتِ الـــغــــروب قـــد نـفـّـض الــلــيـ
ـــــــلُ عــلـــى الـكــونِ حــالــكـاتِ نـقـابـــــه
فاحملي الراحلَ الغريبَ وسيري
بــــالــزغــاريـــد ســــلــوةً لاغـــتــــرابــــــه
وادخلي هيكل الفنون وأبقيـــــــ
ــــــهِ سِــــراجـــاً يُــــضــيء فـي محرابـــــه
إن هذا الموكب الضخم ليس سوى تكفير عن الإحساس بالذنب الذي تستشعره الأمة الجاهلية تجاه ما فرطت في حق فنان مبدع من أبنائها، وقد جاء رد فعل قامت به السماء تجاه ما ارتكبه أهل الأرض من عقوق وإثم بحق الفنان الأصيل.
القسم الثاني:
في هذا القسم ينكص أبو ريشة إلى الوراء ليحدثنا عن الفنان العظيم الذي حاول الارتقاء بفن الموسيقا ،وسعى إلى السمو بها ولكن الدنيا تجاهلت سعيه وأنكرت فضله وضنت عليه بأتفه أسباب العيش مع أنها أكرمت الفنان المزيف ومدت إليـــه ذراعيها. فالفنان الأصيل في الشرق يظل مضطهدا منبوذا لأنه حاول الخروج على المألوف ، ولأنه لم يساير الغوغاء في
جهالتهم. إن الناس في الشرق لا يعلمون أن الفن رسالة عظيمة هدفها السمو بالنفس وتهذيب الأخلاق، بل يرون أن الفن سرور عابر، ونشوة رخيصة تُباع في الملاهي والحانات ، وهكذا يعيش الفنان الأصيــل غريباً تماماً عنهم محروماً من كل تقدير، لا يعرفون مكانته إلا بعد أن يموت بقرون ودهور.
ويصور لنا أبو ريشة معاناة الفنان الحقيقيّ تصويراً خيالياً رائعاً، فطريق الفن قاتمة مظلمة ، والفنان يسير فيها حاملاً شموع الأمل، ولكن صخورها تدمي قدميه، ورياحها تطفئ شموعه، وأفاعيها تنهشه، وأشواكها تمزق لحمه. فهو ضائع خائب:
مــلّ دنيـــاه بـــعـــد مــــا ســئـــم السَّـــــيْــ
ــــرَ علــــيــهــا وضــــاق فـــي بَلْوائـــــهْ
مَــوْرِدُ الـفــن مُــظــلِـــمُ لــــــم يــــصــــــوّبْ
فــوقــه الشــــرق مــشــعـــلا من ضيائـه
ســـــار فـيــــه وظلـمـــــة الــيــــأس تُــطـفي
تحـــــت أنــفــاســــه شــمـــوعَ رجـــائـه
وأمام قسوة الأقدار، وشراسة الحياة، وقسوة المجتمع، لا يستطيع الفنان أن يصمد، بل لابد له أن ينهـــــار تحت ضربات القدر، وهكذا يصوره الشاعر لنا محطماً مهشماً حالته تدعو إلى الأسى، شأنه شأن رجل دفن أبناءه ورجع من المقبرة:
فـــحنــــى رأســــه الــكئـــيــــب وألـــقــــــى
بعــصــــاه، وضـــج فــــــي بـــأســائـــه
وانــثــنــــى عـــائـــــداً يــشـــيـــّـع حـــلــمـا
يــتــلاشــى مـــن مــقــلــتــَـيْ نــعــمائـه
عـــــودةَ الــثــاكـل الــحـــزيــن وقـد نفـــــ
ـــض كــفـــيـــــه مــــن ثـــــرى أبـــنائه
وإذا فأبو ريشة يرى أن الفنان المرهف الحساس مضطر إلى الانسحاب في مثل هذه الحال ؛لأن الوقوف في وجــــــه العواصف لا يجديه نفعاً، والصبر على الجوع والحرمان أمر لا يطاق، وهكذا يمهد للقسم الثالث.
القسم الثالث:
في هذا القسم نقف على الفنان وقد انهار وانهزم، فقص جناح الطموح، وطوى شراع الأمل، وهجر المثاليات، وما قيمة المثاليات في زمان تافه سخيف؟!.. إنها ضرب من الجنون. مأســــــاة كميل شمبير هي أنه ولـــد في عصر غير عصره، وجاء في غير زمانه ، زمان لا تقدير فيه للفن الراقي ، ولا قيمة فيه للفنان الأصيل، ولو تأملت حالة الفن فيه لوجدتـها تبعث على الأسى: غانيات وسكارى وأقداح وحانات يؤمها الموسرون فقط لشـراء لحظات من الســــــرور يبيعهم إياها فنانون مزيفون عرفوا كيف يســــــتفيدون من جهل الناس،هنا نجد كميلا ينزل إلى أرض الواقع فيعمل في حانة رخيصة ؛ لكي يظفر ببعض القروش التي يسد بها رمقه . صحيح أنه حظي بالتصفيق والإعجــاب، لكنــه ظل يتقطع في داخـلـــه ويتمزق في أعماقه، إنه يضحك للناس، وينثر على مســــامعهم الألحان، ولكنه يبكي من غير دمـــــوع :( كالطير يرقص مذبوحاً من الألم ). ولئن حنت عليه الحانة وضمته إلى صدرها فذلك ؛ لأنها رأت فيه فنـاناً متميزاً ما سبق لها أن ظفرت بمثله.
ضـــاق فـــي وجـــهـــه الفضــــاء وما فــي
قـــوســــه نــبــلـــة لــصــون كـــيـانـــهْ
فــحــوتــــه فـــي صــدرها الحـــانة الحمـــ
ــــراء خــــــوفـــاً عــليــه مــــن أحزانه
فــتــغــنـــى بــعـــطــفــــها وحـبـــــاهــــــا
بالــشـــهـــي الــفـــتـــــان مــن ألــحانه
وهــــوى يــنــــحــــر الــكــــآبـــة نــحـــراً
بــيــــن نـُـعــــمى أوتـــاره وحِـــســـانه
وهكذا تخلى الفنان عن رسالته السامية، لقد خلع معطف الوقار، وباع مثالياته، وقرر الهبوط إلى الواقع:
وانـــبــــرى يـكــرع الــمـــدامـــة حتى
هــــرئــــت لـثــتــــاه عــــن أســــنـانه
ويـعــــب الـــدخــــان حــتـــى اسـتحالـت
رئــتــــــاه مـجــامــــراً لــدخـــــــانــه
خــالــعــــاً مـــعـــطــــف الــوقار مـكبــــاً
فـــــوق أهــوائـــــه طـــلــيـــق عنانه
القسم الرابع
في هذا القسم يتصدى أبو ريشة للدفاع عن الفنان الأصيل إذا سقط وانحدر وتمرغ في الوحل، فلو أنه وجد من يحميـــه ويؤويه ويكفيه لما تخلى عن طموحه ولما كسر سيفه وباع فنه، ولكن ماذا يصنع وبضاعة الفن خاسرة وسوقها كاسدة؟ أيموت جوعاً أم يساير الزمان ويجاري أهله؟
على أن الفنان ــ وإن انغمس في مستنقع الحياة، وباع فنه، وضحك للغانيات وبائعات الهوى والســـكارى ـــ عاجز حتما عن استمراء هذا النوع من العيش. أما إقباله على الخمرة والتدخيــــن ففرار من الواقع وهرب منه. وهو هرب مؤقــــت وسكر عابر، يفر عبره من التفاهة التي صار إليها، إلى عالم المثــل الذي هو عالمه الحقيقي. إنه حيــــن يتجرع الخمرة يطير على جناح الوهم، ليتأمل عالم النقاء والصفاء والفن الراقي الذي يعيش من أجله؛ فهوإذا يدمر جسده لينقذ روحه:
يـــالــهــــا ســـكــــرة ! لــقـــد أطــلـقــتـــه
مـــــن قــيـــــود الـــورى ومــــن أتـراحه
غــســلـــت عــــن فـــؤاده ألـــــم الــعيــ
ـــــــش، وألـــوت بــبــــاقـــيــــات كفاحه
وأرتـــه طــيــــوف آمـــالـــــه الـغُــــرّ
عـــذارى يــطـُــفـــــن فــــوق وشــــاحـه
حــــامـــــلات عـلــــى ســـواعــدها البيــ
ض أكــالــيــــــــــل فـــوزه ونـجاحـــــــه
هي إذا لحظات من السكر يصحو بعدها الفنان ليرى ما حوله من قيء وعفونة وقذارة. إن الخمرة ليست حلا لمشكلته ولا علاجاً لآلامه.
ومن الأمور التي أبرزها أبو ريشة للعيان أن الفساد الذي قد يعترى الفنان في الظاهر لا يمكن أن يمحو طهره الكامـــن:
لا تــــلــــومــــوه فــــــي ضـــلال خطــاه
رب رجــس الـــطـــهـــرُ مـــن أركــانــــــه
القسم الخامس
يؤكد أبو ريشة في هذا القسم فكرة أن الفنان العظيم ــ وإن حملته الأقدار على بيع مثالياته ــ وأكرهته على نســــــــيان طموحه، عاجزة كل العجز عن إخماد النور في أعماق فؤاده، وغير قادرة على قهر روحـه المتوثب. ولئن تلوث الفنان أمدا من الزمان فلابد له من أن يثور على واقعه. إنه غارق في الوحل ولكن عينيه عالقتان في الســــــــماء ، لقد أفـاق كميل من سكره فرأى ما هو فيه من ذل وهوان؛ فاختلج وارتعش ثم لم يلبث أن انتفض وأسلم الروح إلى بارئها وآثـر الموت على الحياة:
فــغـــفــــا غـــارقــــا بـسـكـرته الهـــــو
جــــاء والـــــروح مـمـعـن فـــي رواحه
قــبـــل أن يــطــلـــع الـصــبــاح عــلـيـه
ويـــرى الـحــــلـــم كــــاذبــا في صباحه
هــــكــــذا الـــوهــــم لـلــمــخـبط في اليأ
س ضمــــاد وبــلـســـــــم لــــجـــراحــه
ويمضي بعد ذلك أبو ريشــــة، فيصور لنا عناصـــــر الطبيعة، وهي تنوب عن البشر، في التكفير عن الذنوب، فما إن سمعت بموت الفنان حتى هرعت إليه ساكبة عطفها فوق جثمانه. فالفجر يصب عليه شـــــآبيب الرحمة، والليل يذرف دموع الحزن:
زحـــف الــفــجــــر بــاتــئـــــاد كــنــســــــر
قــصــــت الـــريــــح مــــن طــــويــل جـناحــــه
وأتـــــى جــثــــة، فــصــب عـــلـــيـــــــــها
دفـــقــــــات مــــن عــــطــــفـــــه وســمــاحــه
والــنــــدى لــــم يــزل عـــلــيــــها دموعــا
ســــــلــن مــــن زفــــرة الـــدجــــى ونــواحـه
وهكذا فالشاعر يحرك عناصر الطبيعة لإنقاذ الموقف وإعادة التوازن ( إن الفنان المظلوم في المجتمع يجد من لدن الطبيعة عطفاً وحناناً ورحمة وإحساناً )
القسم السادس
في القسم الأخير من القصيدة يأخذ أبو ريشة في التفلسف وطرح التساؤلات: فهل يستريح الفنان بالموت من العناء والنكد؟ وهل ينتقل بعد هذا الشقاء إلى عالم حافل بالسرور والسعادة تعويضاً عما فاته في الدنيا؟
مـــــا أظـــــن الآلام فـــــي عــالــم الــــرو
ح تــــزجــــــي أشـــراكــهـــا لاصطــياده
قــــــد كـفـــــاه مــــا ذاق فـــي دنــيــــــــاه
مــن لـئــــام الــورى و مـــن حــســاده
وهكذا فأبو ريشة يرى أن الفنان الأصيل سيلاقي الجزاء الأوفى ويحظى بالنعيم المقيم، ولكن بعد انقضاء حياته ( وهذا عدل من السماء ) كما يرى أن الشرقيين عموماً مخطئون في احتفائهم بالفنان الأجنبي وتجاهلهم لمن بين ظهرانيهم من المبدعين. وكأني بالشاعر يُهيب بالناس أن يكرّموا أصحاب الإبداع في الحياة قبل أن يلفهم الردى ويشملهم الموت.
وفي ختام القصيدة يصور لنا الشاعر الأثر الكبير الذي يُحدثه الفنان الأصيل بعد رحيله، فبموت كميل انتهى عهد السرور وأظلمت الدنيا، وانتهت ساعات السعادة:
صـــفــحــة الـــحـــــب والـــهـــوى
والأهـــازيــــــج والــــنـغـــــــم
قــــد طـــــوتـــهــا يـــــــد الــــردى
فــــهـي فــــــــي حُـجــرة العدم
على أن الفنان ــ وإن زال بجسده، ــ خالد بذكراه، باق بفنه، وها هم أولاء أصدقاؤه المخلصون كلما اجتمعوا تركــوا له مكانا فارغا من المجلس؛ كي يجلس فيه وكأنه ما زال حياً، وإذا ضمهم مجلس الشراب كفوا عن احتسائه وسكبوا ما في كؤوسهم حفاظاً على عهده واحتراما لفنه، فهو حي خالد وإن رحل عنهم:
إنـمــا لـم تــــــــزل رفـــــاق لياليــــ
ـــه كــرامـاً عــلــــى عهــــود وفـــائه
تــجــمـع الخمــر شملهـــم فيخلــــو
ن فـــــراغ اتـكــائــه واســــــــتــنـاده
كــلمـــا مـــرّ ذكــــره قـلـــــبوا الكأ
س عـــلــى الأرض حــسـرة لافـتــقاده
وهكذا يكون الشاعر قد حقق التوازن المفقود في الكون من خلال إبراز جانب الوفاء والإخلاص للفنان الذي تنكر له أهله وظلمه عصره.
التسميات: عمر أبو ريشة