النزعة المثالية في شعر أبي فراس الحمداني
النزعة المثالية في شعر أبي فراس
د. عبد الرحمن دركزللي
ما قرأ امرؤ شعر أبي فراس إلا أحس بنشوة عارمة تسري في أعماقه, أما سر هذه النشوة فراجع-في المقام الأول- إلى تلك النزعة المثالية التي تشيع في شعره فضلاً عن صدق العاطفة وجودة الصياغة وعفوية التعبير.
وإذا صح ما زعموه من أن الروح كانت ذات يوم في الملأ الأعلى, حيث الكمال والجمال, وأنها هبطت بعد ذلك إلى الأرض, فتلبست بالمادة, ولحقها ما لحقها من أدران الجسد, وأنها قادرة ــ من خلال الفن الأصيل ــ أن ترجع، ولو لحظات ، إلى ذلك العالم البهي السعيد, فإن شعر أبي فراس ينتمي إلى ذلك النمط الأصيل الراقي الذي يحرر النفس من أغلالها, ويطلق الروح من عقالها, ويرتقي بها في معارج الكمال حتى تبلغ أعلى مراتب الشرف والفضيلة, ولقد لمح إلى ذلك أحد النقاد حين وصف شعره بقوله : " لو سمعته الوحش أنست, أو خوطبت به الخرس نطقت, أو استدعيت به الطير نزلت".
ومثالية أبي فراس لا تقتصر على شعره وأدبه, بل تبرز في سلوكه ونمط عيشه؛ فهو من بني حمدان الذين كانوا على حد تعبير الثعالبي-: " ملوكاً وأمراء أوجههم للصباحة، وألسنتهم للفصاحة , وأيديهم للسماحة , وعقولهم للرجاحة" , ثم إنه نشأ وترعرع في كنف ابن عمه سيف الدولة أمير حلب الذي كان " يصطحبه في غزواته , ويصطنعه لنفسه, ويستخلفه في أعماله" , فلا عجب بعدئذ أن يغدو أبو فراس " فرد دهره , وشمس عصره أدباً وفضلاً وكرماً ونبلاً" على أن هذه الظروف ما كانت لتصنع ــ وحدها – شيئاً لو لم توافق منه عقلاً راجحاً، ونفساً أبية, واستعدادا فطريا لتقبل الفضائل واكتساب المعالي.
ومن أبرز الدلائل على ما ذهبنا إليه أن أبا فراس لم ينغمس في حياة الترف والنعيم ولم يجار أبناء الطبقة النبيلة في اقتناص اللذات؛ إذ كان يدرك أن ضريبة الشرف باهظة , وأن المعالي لا تنال إلا بمخالفة الهوى ومجاهدة النفس وكبح الجماح :
لئن خلق الأنام لحسو كاس ومزمار وطنبور وعـود
فلم يخلق بنو حمــــــدان إلا لمجد أو لبأس أو لجــود
كان يشعر في أعماقه أن الحياة ندبته لما هو أعظم من معاقرة الصهباء ومعاشرة النساء وغير ذلك من ضروب اللذات , نعم كان يهفو إلى الحب، ويصبو- بحكم الرجولة- إليه , "لكنه لم يتصاغر أمام المرأة", ولم يدع لها مجالاً لكي تستعبده وتستذله, فهو يرى أن الجري البعيد في مضمار الهوى ضرب من ضروب الضلال:
لقد ضل من تحوي هواه خريدة وقد ذل من تقضي عليه كعاب
ولكننــــي- والحمد لله-ـ حـــــازم أعـــــز إذا ذلت لهـــــن رقــاب
ولا تــــملك الحسناء قلبــــــي كله وإن شـــملتها رقــة وشبــــــاب
والحق أن الحياة لم تتح لأبي فراس مجالاً كي يستمتع بمباهجها , بل تطلبت منه أموراً جليلة كانت هي والمجون على طرفي النقيض, وما يقال عن المرآة يقال أيضاً عن المال الذي يتهافت عليه الناس عادة, وتندقّ في سبيله منهم الأعناق , ذلك أن أبا فراس كان يرى أنه متاع تافه, لا يجوز أن يستعبد الإنسان, وعنده أن الغني الحقيقي إنما هو غني النفس:
إن الغنــــــــي هو الغني بنفــسه ولو أنه عاري المناكب حاف
وتعاف لي طمع الحريص فتوّتـي ومروءتي وقناعــتي وعفافـي
ومما يدل على عفته أنه لم يتخذ الشعر حرفة, ولم يسخر فنه للفوز بالجوائز والظفر بالهبات، وما ذلك إلا لأنه رأى في شعراء عصره تملقاً ومداهمة وتزلفاً, وهي أمور لا تناسب المثالية التي جُبل عليها, فالشاعر الحق ــ عنده ــ هو الذي يمدح الرجل بما فيه, لا طمعاً في ثراء، ولا رغبة في عطاء, وهذا ما يفسر لنا إعراضه عن كتابة قصيدة كاملة لوجه المديح, فإذا مدح اكتفى بإيراد أبيات يسوقها في معرض الفخر بنفسه أو بأسلافه.
وإذا ضربنا صفحاً عن سلوك أبي فراس , وأجلنا النظر في أشعاره وجدنا أن ديوانه معرض للقيم العليا و سفر لمكارم الأخلاق, وهذا يدل على نفس طاهرة زكية, وصدق المثل الحكيم القائل : " وكل إناء بالذي فيه ينضح" ولعل إلحاحه الشديد على مكارم الأخلاق كان ترفعاً منه عن القيم الفاسدة التي سادت عصره, فأبو فراس كان يدرك أن مهمة الأدب , ووظيفة الشعر- في كل مكان وزمان- إنما هي تهذيب النفوس وصقل الطباع وتقويم السلوك, والارتقاء بالإنسان إلى الفضائل, لذلك رأيناه يتغنى ــ دائما ــ بالخلال الشريفة من شجاعة وكرم ونجدة وغير ذلك :
لنا بيت على عُنق الثريا بعيدُ مذاهب الأطناب سام
تظلله الفوارس بالعوالي وتفرشه الولائد بالطعــــام
وهو لا يقتصر على القيم القديمة , بل يتجاوزها إلى القيم الإسلامية كالعدل والرحمة, والإذعان للحق, ونصرة الضعيف, والحفاظ على مال اليتيم:
لست بالمستضيم من هو دوني إعتداءً, ولست بالمستضام
أبذل الحق للخصــــــــوم إذا ما عجزت عنه قدرة الحكــــام
وهو على يقين مطلق أن " الثقة بالله" من أعظم الفضائل التي يتحلى بها الإنسان:
ومن لا يوقيّ اللهُ فهو ممـــــــــزق ومن لا يُعـــزّ اللهُ فهو ذليل
وإن هو لم ينصرك لم تلق ناصـراً وإن جل أنصار ، وعز قبيل
وإن هو لم يدلك فـــــي كـل مســلك ضللت ولو أنّ الســماك دلـيل
بعد أن عرضنا لطرف من القيم العليا والمثل الأخلاقية التي نادى بها أبو فراس, ينبغي لنا أن نشير إلى المصادر التي استقى منها هذه المثالية. وهي-في الحق-ثلاثة:
أولها سجايا أسلافه ومناقب قومه , فهو يرى أنهم معدِن الشرف وليوث الوغى , وأهل الندى , وأن من حقهم عليه أن يقتفي أثارهم ويتقيل خطاهم, ويصون قيمهم, تحقيقاً لما توســـــموه فيه وتوقعوه منه :
تطالبني البيض الصوارم والقنا بما وعدت جديّ فيّ المخايــلُ
وما المرء إلا حيث يجعل نفســه وإني لها فوق السماكينِ جاعل
وأبو فراس شديد الإعجاب بقومه, مفتون بخلالهم الحميدة, وسجاياهم الفاضلة، مأخوذ بأمجاد قبيلته, يرى أنها جمعت المكارم كلها:
أيها المبتغي محل بنـي حمــــ دان مهلا أتبلـــــغ الجوزاء؟!
فضلوا الناس رفعة وســــموا وعلـوهم تكـــــــــرماً ووفــاءً
يا مُجيل الأفكار فيهم إلى كــم تتعب النفس..هل تنال السماء؟!
أسرتي, لا أقول افتخارا, سراة حسبهم ذك مفــــــــخراً وسناء
أما المصدر الثاني لمثالية أبي فراس فهو شخصية ابن عمه سيف الدولة التي هام بها حبا، واتخذها قدوة ، وكان أستاذه في المكارم والمآثر:
وهل عذر وسيف الدين ركني إذا لم أركب الخطط العظاما
وأقــفــــــــــو فعله في كل أمر وأجعل فضلـــــــه أبدا إماما
وقد أصبحت منتســـــــــبا إليه وحسبي أن أكون له غلامــا
أراني كيف تكتسب المعالـــــي وأنشاني فسُدت بهـا الأنامــــا
أما المصدرالثالث فهو حبه لآل البيت؛ وكان يرى فيهم نماذج رفيعة للشرف , ونجوماً مضيئة تسطع في سماء الفضيلة , وأمثلة رائعة للتقى والورع والجهاد في سبيل الله:
لا يغضبون لغير الله إن غضبوا ولا يضيعون حكم الله إن حكموا
ما في ديارهم للخمر معتصِـــــر ولا بيوتُهم بالســــــوء تُــتــهــــم
صلى الإله عليهم أينما ذكــــروا لأنهم للورى كهـــف ومعتصــــم
وهو يصرح بأن القيم التي يحملها, ويعتز بها إنما هي قبس من نورهم، ونفحة من هديهم:
يا رب إني مهتد بهداهــــــم لا أهتـــدي- يوم الهدى- بسواه
أهوى الذي يهوى النبي وأله أبداُ وأشـــنأ كل من يشنـــــــاه
ولا بد لنا من الإشارة أخيراً إلى أن أبا فراس ــ بحكم نزعته المثالية ــ كان يصحح كثيراً من المفاهيم الخاطئة التي تنتشر في الحياة, وتشيع بين الناس ، فالكريم ـ عنده- ليس الذي يجود بماله, وإنما الذي يجود بنفسه، كأنه في هذا ينظر إلى قول الأخر: ( والجودُ بالنفس أقصى غايةِ الجود)
يقول أبو فراس :
وندعو كريماً من يجود بماله ومَن جاد بالنفس النفيسةِ أكرمُ
وإذا أساء إليه صديق لم يقابل إساءته بالإساءة , ولا جفاءه بالجفاء, وإنما لجأ إلى الصفح والغفران:
ما كنت, مذ كنت, إلا طوع خلاني ليست مؤاخذة الإخوان من شاني
يجني الخليل فاستحلي جنايــــــــته حتى أدل على عفوي وإحسانـــي
يجني عليّ وأحنو صادقــــاً أبــــدا لا شيء أحسن من حان على جان
وإذا رأى الناس يفرون من مواجهة الموت , حرصاً على الحياة أو ضنّا بها, بادر إلى تذكيرهم أن العيش الذليل هو الموت الحقيقي, وأن الحياة الحقيقية في الموت الشريف، وأن في سمعة الإنسان العطرة بقاء له وحياة أبدية:
وقال أُُصيحابي : الفرار أو الردى فقلت : هما أمران أحلاهما مُـر
يقولون لي: بعتَ السـلامة بالردى فقلت : أما واللهِ ما نالني خُســر
هو الموت؛ فاختر ما علا بك ذكره فلم يمت الإنســان ما حيي الذكـر
وقد ألح مراراً على هذه الفكرة وعاد إليها في شعره , وكأنه كان يحس أنه سيموت في ساحة الوغى على صهوات الخيل:
وما ذاك بخلا بالحياة وإنهــا لأول مبــــــذول لأول مجــــتـــد
ولكنني أختار موت بني أبي على صهوات الخيل غير موسد
وإني ســــــألقاها , فإما منية هي الظن أو بنيـــــــان عز مؤبّد
رحم الله تلك الروح الطاهرة التي ستظل إلى الأبد , مثالاً للشرف, ونبراساً للفضيلة، ومنهلاً عذباً للقيم العليا والمثل الرفيعة.
د. عبد الرحمن دركزللي
ما قرأ امرؤ شعر أبي فراس إلا أحس بنشوة عارمة تسري في أعماقه, أما سر هذه النشوة فراجع-في المقام الأول- إلى تلك النزعة المثالية التي تشيع في شعره فضلاً عن صدق العاطفة وجودة الصياغة وعفوية التعبير.
وإذا صح ما زعموه من أن الروح كانت ذات يوم في الملأ الأعلى, حيث الكمال والجمال, وأنها هبطت بعد ذلك إلى الأرض, فتلبست بالمادة, ولحقها ما لحقها من أدران الجسد, وأنها قادرة ــ من خلال الفن الأصيل ــ أن ترجع، ولو لحظات ، إلى ذلك العالم البهي السعيد, فإن شعر أبي فراس ينتمي إلى ذلك النمط الأصيل الراقي الذي يحرر النفس من أغلالها, ويطلق الروح من عقالها, ويرتقي بها في معارج الكمال حتى تبلغ أعلى مراتب الشرف والفضيلة, ولقد لمح إلى ذلك أحد النقاد حين وصف شعره بقوله : " لو سمعته الوحش أنست, أو خوطبت به الخرس نطقت, أو استدعيت به الطير نزلت".
ومثالية أبي فراس لا تقتصر على شعره وأدبه, بل تبرز في سلوكه ونمط عيشه؛ فهو من بني حمدان الذين كانوا على حد تعبير الثعالبي-: " ملوكاً وأمراء أوجههم للصباحة، وألسنتهم للفصاحة , وأيديهم للسماحة , وعقولهم للرجاحة" , ثم إنه نشأ وترعرع في كنف ابن عمه سيف الدولة أمير حلب الذي كان " يصطحبه في غزواته , ويصطنعه لنفسه, ويستخلفه في أعماله" , فلا عجب بعدئذ أن يغدو أبو فراس " فرد دهره , وشمس عصره أدباً وفضلاً وكرماً ونبلاً" على أن هذه الظروف ما كانت لتصنع ــ وحدها – شيئاً لو لم توافق منه عقلاً راجحاً، ونفساً أبية, واستعدادا فطريا لتقبل الفضائل واكتساب المعالي.
ومن أبرز الدلائل على ما ذهبنا إليه أن أبا فراس لم ينغمس في حياة الترف والنعيم ولم يجار أبناء الطبقة النبيلة في اقتناص اللذات؛ إذ كان يدرك أن ضريبة الشرف باهظة , وأن المعالي لا تنال إلا بمخالفة الهوى ومجاهدة النفس وكبح الجماح :
لئن خلق الأنام لحسو كاس ومزمار وطنبور وعـود
فلم يخلق بنو حمــــــدان إلا لمجد أو لبأس أو لجــود
كان يشعر في أعماقه أن الحياة ندبته لما هو أعظم من معاقرة الصهباء ومعاشرة النساء وغير ذلك من ضروب اللذات , نعم كان يهفو إلى الحب، ويصبو- بحكم الرجولة- إليه , "لكنه لم يتصاغر أمام المرأة", ولم يدع لها مجالاً لكي تستعبده وتستذله, فهو يرى أن الجري البعيد في مضمار الهوى ضرب من ضروب الضلال:
لقد ضل من تحوي هواه خريدة وقد ذل من تقضي عليه كعاب
ولكننــــي- والحمد لله-ـ حـــــازم أعـــــز إذا ذلت لهـــــن رقــاب
ولا تــــملك الحسناء قلبــــــي كله وإن شـــملتها رقــة وشبــــــاب
والحق أن الحياة لم تتح لأبي فراس مجالاً كي يستمتع بمباهجها , بل تطلبت منه أموراً جليلة كانت هي والمجون على طرفي النقيض, وما يقال عن المرآة يقال أيضاً عن المال الذي يتهافت عليه الناس عادة, وتندقّ في سبيله منهم الأعناق , ذلك أن أبا فراس كان يرى أنه متاع تافه, لا يجوز أن يستعبد الإنسان, وعنده أن الغني الحقيقي إنما هو غني النفس:
إن الغنــــــــي هو الغني بنفــسه ولو أنه عاري المناكب حاف
وتعاف لي طمع الحريص فتوّتـي ومروءتي وقناعــتي وعفافـي
ومما يدل على عفته أنه لم يتخذ الشعر حرفة, ولم يسخر فنه للفوز بالجوائز والظفر بالهبات، وما ذلك إلا لأنه رأى في شعراء عصره تملقاً ومداهمة وتزلفاً, وهي أمور لا تناسب المثالية التي جُبل عليها, فالشاعر الحق ــ عنده ــ هو الذي يمدح الرجل بما فيه, لا طمعاً في ثراء، ولا رغبة في عطاء, وهذا ما يفسر لنا إعراضه عن كتابة قصيدة كاملة لوجه المديح, فإذا مدح اكتفى بإيراد أبيات يسوقها في معرض الفخر بنفسه أو بأسلافه.
وإذا ضربنا صفحاً عن سلوك أبي فراس , وأجلنا النظر في أشعاره وجدنا أن ديوانه معرض للقيم العليا و سفر لمكارم الأخلاق, وهذا يدل على نفس طاهرة زكية, وصدق المثل الحكيم القائل : " وكل إناء بالذي فيه ينضح" ولعل إلحاحه الشديد على مكارم الأخلاق كان ترفعاً منه عن القيم الفاسدة التي سادت عصره, فأبو فراس كان يدرك أن مهمة الأدب , ووظيفة الشعر- في كل مكان وزمان- إنما هي تهذيب النفوس وصقل الطباع وتقويم السلوك, والارتقاء بالإنسان إلى الفضائل, لذلك رأيناه يتغنى ــ دائما ــ بالخلال الشريفة من شجاعة وكرم ونجدة وغير ذلك :
لنا بيت على عُنق الثريا بعيدُ مذاهب الأطناب سام
تظلله الفوارس بالعوالي وتفرشه الولائد بالطعــــام
وهو لا يقتصر على القيم القديمة , بل يتجاوزها إلى القيم الإسلامية كالعدل والرحمة, والإذعان للحق, ونصرة الضعيف, والحفاظ على مال اليتيم:
لست بالمستضيم من هو دوني إعتداءً, ولست بالمستضام
أبذل الحق للخصــــــــوم إذا ما عجزت عنه قدرة الحكــــام
وهو على يقين مطلق أن " الثقة بالله" من أعظم الفضائل التي يتحلى بها الإنسان:
ومن لا يوقيّ اللهُ فهو ممـــــــــزق ومن لا يُعـــزّ اللهُ فهو ذليل
وإن هو لم ينصرك لم تلق ناصـراً وإن جل أنصار ، وعز قبيل
وإن هو لم يدلك فـــــي كـل مســلك ضللت ولو أنّ الســماك دلـيل
بعد أن عرضنا لطرف من القيم العليا والمثل الأخلاقية التي نادى بها أبو فراس, ينبغي لنا أن نشير إلى المصادر التي استقى منها هذه المثالية. وهي-في الحق-ثلاثة:
أولها سجايا أسلافه ومناقب قومه , فهو يرى أنهم معدِن الشرف وليوث الوغى , وأهل الندى , وأن من حقهم عليه أن يقتفي أثارهم ويتقيل خطاهم, ويصون قيمهم, تحقيقاً لما توســـــموه فيه وتوقعوه منه :
تطالبني البيض الصوارم والقنا بما وعدت جديّ فيّ المخايــلُ
وما المرء إلا حيث يجعل نفســه وإني لها فوق السماكينِ جاعل
وأبو فراس شديد الإعجاب بقومه, مفتون بخلالهم الحميدة, وسجاياهم الفاضلة، مأخوذ بأمجاد قبيلته, يرى أنها جمعت المكارم كلها:
أيها المبتغي محل بنـي حمــــ دان مهلا أتبلـــــغ الجوزاء؟!
فضلوا الناس رفعة وســــموا وعلـوهم تكـــــــــرماً ووفــاءً
يا مُجيل الأفكار فيهم إلى كــم تتعب النفس..هل تنال السماء؟!
أسرتي, لا أقول افتخارا, سراة حسبهم ذك مفــــــــخراً وسناء
أما المصدر الثاني لمثالية أبي فراس فهو شخصية ابن عمه سيف الدولة التي هام بها حبا، واتخذها قدوة ، وكان أستاذه في المكارم والمآثر:
وهل عذر وسيف الدين ركني إذا لم أركب الخطط العظاما
وأقــفــــــــــو فعله في كل أمر وأجعل فضلـــــــه أبدا إماما
وقد أصبحت منتســـــــــبا إليه وحسبي أن أكون له غلامــا
أراني كيف تكتسب المعالـــــي وأنشاني فسُدت بهـا الأنامــــا
أما المصدرالثالث فهو حبه لآل البيت؛ وكان يرى فيهم نماذج رفيعة للشرف , ونجوماً مضيئة تسطع في سماء الفضيلة , وأمثلة رائعة للتقى والورع والجهاد في سبيل الله:
لا يغضبون لغير الله إن غضبوا ولا يضيعون حكم الله إن حكموا
ما في ديارهم للخمر معتصِـــــر ولا بيوتُهم بالســــــوء تُــتــهــــم
صلى الإله عليهم أينما ذكــــروا لأنهم للورى كهـــف ومعتصــــم
وهو يصرح بأن القيم التي يحملها, ويعتز بها إنما هي قبس من نورهم، ونفحة من هديهم:
يا رب إني مهتد بهداهــــــم لا أهتـــدي- يوم الهدى- بسواه
أهوى الذي يهوى النبي وأله أبداُ وأشـــنأ كل من يشنـــــــاه
ولا بد لنا من الإشارة أخيراً إلى أن أبا فراس ــ بحكم نزعته المثالية ــ كان يصحح كثيراً من المفاهيم الخاطئة التي تنتشر في الحياة, وتشيع بين الناس ، فالكريم ـ عنده- ليس الذي يجود بماله, وإنما الذي يجود بنفسه، كأنه في هذا ينظر إلى قول الأخر: ( والجودُ بالنفس أقصى غايةِ الجود)
يقول أبو فراس :
وندعو كريماً من يجود بماله ومَن جاد بالنفس النفيسةِ أكرمُ
وإذا أساء إليه صديق لم يقابل إساءته بالإساءة , ولا جفاءه بالجفاء, وإنما لجأ إلى الصفح والغفران:
ما كنت, مذ كنت, إلا طوع خلاني ليست مؤاخذة الإخوان من شاني
يجني الخليل فاستحلي جنايــــــــته حتى أدل على عفوي وإحسانـــي
يجني عليّ وأحنو صادقــــاً أبــــدا لا شيء أحسن من حان على جان
وإذا رأى الناس يفرون من مواجهة الموت , حرصاً على الحياة أو ضنّا بها, بادر إلى تذكيرهم أن العيش الذليل هو الموت الحقيقي, وأن الحياة الحقيقية في الموت الشريف، وأن في سمعة الإنسان العطرة بقاء له وحياة أبدية:
وقال أُُصيحابي : الفرار أو الردى فقلت : هما أمران أحلاهما مُـر
يقولون لي: بعتَ السـلامة بالردى فقلت : أما واللهِ ما نالني خُســر
هو الموت؛ فاختر ما علا بك ذكره فلم يمت الإنســان ما حيي الذكـر
وقد ألح مراراً على هذه الفكرة وعاد إليها في شعره , وكأنه كان يحس أنه سيموت في ساحة الوغى على صهوات الخيل:
وما ذاك بخلا بالحياة وإنهــا لأول مبــــــذول لأول مجــــتـــد
ولكنني أختار موت بني أبي على صهوات الخيل غير موسد
وإني ســــــألقاها , فإما منية هي الظن أو بنيـــــــان عز مؤبّد
رحم الله تلك الروح الطاهرة التي ستظل إلى الأبد , مثالاً للشرف, ونبراساً للفضيلة، ومنهلاً عذباً للقيم العليا والمثل الرفيعة.
التسميات: فراس الحمداني
0 Comments:
إرسال تعليق
<< Home