حياة ابن عربي و فلسفته
حياة ابن عربي و فلسفته
د . عبد الرحمن دركزللي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولد الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي في " مرسية " بالأندلس سنة 560 هـ ، و ما إن بلغ الثامنة من عمره حتى قصد : إشبيلية " لدراسة الفقه و الحديث الشريف و علوم القرآن ، فأقام بها قرابة ثلاثين ســــــــنة ينهل من مناهل الثقافة و العلم ، ثم إنه عقد العزم على مغادرة الأندلس و النزوح عنها إلى المشــرق ، و كان حينئذ في الثامنة و الثلاثـين فضرب في الآفاق , و طوّف في عدد من الأقطار والأصقاع ( زار مصر و مكة المكرمة و بغداد وحلب و الموصـل و آسية الصغرى ) و كانت شهرته تسبقه إلى كل مكان يحل فيه , كما كان ذوو اليسار يُجرون عليه راتبا كبيرا , و لكنه كان ينفق معظمه في وجوه البر و الخير ( يروى أن أحد الأمراء و هبه بيتا , فما كان منه إلا أن أعطاه لأحد الســــائلين ) , و خلال زيارته لمصر لقي ابن عربي عنتا شديدا , إذ اتهمه أهلها بالزندقة و حاولوا اغتياله , و في مكة المكرمة أحب ابن عربي ابنة الشيخ مكين الدين الأصفهاني نزيل مكة فأعجب بجمالها و مبلغ ذكائها و سعة اطلاعها , لذلك نظم فيها مجموعة من القصائد الغزلية دعاها " ترجمان الأشواق ".
و بعد أمد من الترحال قرر الإقامة بدمشق , فألقى فيها عصا التسيار , و لبث فيها بقية عمره حتى وافته المنية سنة 638 هـ ، فدفن بسفح جبل قاسيون .
عاش ابن عربي حياة حافلة بالتنقل و الأسفار , عامرة بمجالس العلم , غنية بالتجارب , و كان غزير النتاج ، جــــم التآليف , كتب ــ كما قال في إحدى رسائله ــ مئتين وتسعة وثمانين كتابا ورسالة ، و وصفه بروكلمان بأنه " من أخصب المؤلفين عقلا و أوسعهم خيالا " و ذكر أن له نحوا من مئة و خمسين مؤلفا ما تزال باقية بين مخطوط و مطـــبوع . على أنه لم يشغل نفسه بالتأليف وحده , بل شغل شطرا منها بما يشغل الصوفيةُ أنفسهم به عادة من ضروب العبادة و صــــنوف المجاهدة و ألوان المراقبة والمحاسبة .
و أشهر مؤلفاته اثنان : " الفتوحات المكية " و " فصـــوص الحكم " أما الفتوحــــات فموسوعة شاملة في عقـــائد الصوفية , جمع فيه شتات علومهم و مصطلحاتهم في خمسمئة و ستين بابا , وقدم لنا , في الباب التاسع والخمـسين بعد الخمســمئة من الكتاب , خلاصة وافية عنه , ولما طلب ابن عربي من معاصره ابن الفارض أن يكتب شرحا على تائــيتــه . أجابه ابن الفارض بأنه لا يعرف لها شرحا أفضل من كتاب الفتوحات نفسه , أما تسميته بالفتوحات الملكية فلأنه مما فتح الله به عليه في أثناء زيارته لمكة المكرمة .
" كنت نـويت الحــــــج والعمرة , فلــما وصـــلــت أم الـــقرى
أقــــام الله سبحـــانه وتعالــــى في خاطـري أن أعرّف الولي
بفـــــنون من المــــــعارف... وكان الأغلـــب منها ما فتـــح
الله – سبحانه وتعالى- عليّ به عند طوافي في بيته المكرم "
ووصف لنا كيف ألف الفتوحات , فقال :
" جميـــــع ما كتبته وأكتبه في هذا الكتــــــاب إنما هو من
إمـــــلاء إلهي وإلقـــــاء رباني , أو نفـث روحانـــي في
روح كياني ".
أما كتابه الأخر " فصوص الحكم " فيمثل مذهبه في وحدة الوجود , وهو مذهب ظل يضطرب في نفسه نحوا من أربعين سنة وهو لا يجرؤ على الجهر به في جملته ، ولا يقوى على إخراجه في صورة كاملة , ويعد كتــــاب الفتوحــات تمهيدا للفصوص وتوطئة له، يقول نيكلسون عن" فصوص الحكم":
" ولا تقل الفصوص عنها ( أي عن الفتـــوحات المكية ) من حيث
عظم الأهمية , وهي مـــؤلف صغير من سبعة وعشرين فصـــا
أطلق على كل واحد منها اسم نبي , وقد غدت موضوع شروح
عدة في العربية والتركية والفارسية"
ومما هو جدير بالذكر والتنويه أن ابن عربي لم يكن يكتب بدافع التأليف والتصنيف، وإنما كان يكتب وهو رازح تحت وطأة قوة خارقة كانت تلح عليه وتحمله على ذلك حملا ، وقد وصف لنا هذا بقوله :
" إنه كان يرد علي من الحــق موارد تكاد تـحرقنــي
فكنت أتشاغل عنها بتقييد ما يمكن منها , فخرجت
مخرج التأليف لا من حيث القصد".
****
كان ابن عربي - في الحق – ذا شخصية متعددة الجوانب والمواهب , فهو متصوف وفيلسوف وشاعر , وكان ذا مسـلكين في الحياة , فهو رصين تقي أمام الناس ، مرح متساهل أمام أنداده وأصحابه . وكان – كما قال المقّري- " ظاهري المذهب في العبادات , باطني النظر في الاعتقادات " ومع أنه كان ظاهريا فقد نفى أن يكون تابعا لابن حزم أو سواه:
نســـــــــــــبوني إلى ابن حزم وإني لست ممن يقول "قال ابنُ حزم"
لا , ولا غيـــــره , فإن مقــــــالي : " قال نصُ الكتاب" ... ذلك علمي
أو " يقول الرسولُ" أو " أجمع الخلــــــــــــــقُ على ما أقـول " ذلك حكمي
وهو – مع تمسكه بفرائض الإسلام وعقائده – يتخذ الكشـــف الصـــوفي أو " النور الباطني " رائدا له ومصدرا أوحــد في المعرفة.
وقد اختلف الناس في عقيدته , وفي الحكم عليه أشد الاخــتلاف , فبعضهم رفعه إلى علّـــين , وبعضـــهم وضعه مــع الزنادقة والملحدين , يقول ابن العماد:
" وقد تفرق الناس في شأنه شــيعا , وسلكوا في أمــــــره
طرائق قددا , فذهبت طائفة إلى أنه زنديق لا صـــــديق
وقال قوم : أنه واسطة عقد الأوليــــاء ورئيس الأصفياء
وصار آخرون إلى اعتقاد ولايته وتحريم النظر في كتبه"
وكان الفيروزأبادي صاحب " القاموس " من أشد المعجبين به , حتى إنه طرز شرحه على البخاري بكثير من أقواله , كما كان جلال الدين السيوطي يجله ويوقره، حتى إنه صنف في الدفاع عنه كتابا , سماه :" تنبيه الغبي في تبرئة ابن عربـــي" أما عبد الوهاب الشعراني فهو اشد المنتصرين له وأكثر المنصفين, إذ ألف كتابا عنوانه :" اليواقيت والجواهر في بيـــــان عقائد الأكابر", كما ألف كتابا أخر دعاه :" تنبيه الأغبياء على قطرة من بحر علوم الأولياء " وفيهما دفاع شديد عن ابــن عربي وغيره من المتصوفة، وبلغ به الأمر أن لخص كتاب الفتوحات الملكية في كتابه الموسوم بـ " الكبريـــــت الأحمر في بيان علوم الشيخ الأكبر". ومن الأمور الواضحة أن الناس في كل مكان تعلقوا بابن عربي , وتهافتوا على مؤلفاته , يشهد على ذلك كثرة الألقاب التي خلـــعوها عليه , فهو " الشيخ الأكبر" و " الكبريــت الأحمر" و" ابن أفلاطـــون " و"البحر الزاخر" و " سلطان العارفين" ... وعندما ترجم له صفي الدين بن أبي المنصور قال عنه :
" هو الشــــــــيخ الإمام المحقق , رأس أجلاء العارفين والمقربين
صاحب الإشــــــارات الملكوتية , والنفحات القدسية , والأنفاس
الروحانية , والفتح المونــق , والكشف المشرق , والبصـــــائر
الخارقة , والســــرائر الصادقة , والمعارف الباهرة , والحقائق
الزاهرة، له المحل الأرفع من مراتب القرب في منـــازل الأنس
والمورد العذب في مناهل الوصل , والطــول الأعلى في معارج
الدنو، والقدم الراسخة في التمكين من أحوال النهاية ، والبـاع
الطويل في أحكام الولاية" .
وفلسفة ابن عربي تقو م أساسا على مبدأ " وحدة الوجود " Pantheism , ومفادها أن العالم بجميع مظاهره هو الله , وأن ليس في الوجود سواه , وبناء على هذا فالحقيقة عند ابن عربي واحدة , مظهرها العالم , وجوهرهـــا الله , لذلك رأيناه في الفتوحات يقول :" سبحان من خلق الأشياء وهو عينها " وسمعناه في الفصوص يقول:
يا خالق الأشياء في نفسه أنت لما تخلقه جامـــــــــــع
تخلق ما لا ينتهي كــــونُه فيك , فأنت الضيق الواسع
وقد بث مذهبه هذا في تضاعيف كتبه ونثرها في مواضع مختلفة من تصانيفه , وكان تشتيتها عن قصد , فهو يخشى إذا عرضها عرضا كاملا واضحا أن يثير عليه حفيظة الجاهلين وغضب العامة . قال:
" جئت بها مبددة في أبواب هذا الكتاب ، مستوفاة مبينة
لكنها – كما ذكرنا- متفرقة , فمن رزقــــه الله الفهم فيها
يعرف أمرها , ويميزها عن غيـــرها , فإنها العلم الحق
والقول الصدق"
ويترتب على قوله بوحدة الوجود أن الله هو الأصل وأن العالم صدر عنه وفاض منه . ذلك أنه أراد بإيجــاد العالم أن يرى نفسه ويظهر جماله , فخلقه ليكون بمنزلة المرأة، تتجلى فيه رحمته وقدرته وعدالته ، كما جاء في الحديـــث القدسي الشريف : "كنت كنزا مخفيا , فأحببت أن أُعرف, فخلقت الخلق , فبه عرفوني" وقد يفهم بعضهم من هذا أن ابــــن عربي يقول بالإثنينية , وليس الأمر كذلك , لأن الحقيقة عنده واحدة , هي الله , وليس المراد بالخلق عنده أن الله أوجد العالم من عدم, وإنما هو الفيض الإلهي , فالله بمنزلة " الواحد" من سائر الأعداد , يتكرر فيها على صور متعددة وأشـــكال متــكثّرة وقد صرح بهذا قائلا:
" وقد ثبت عند المحققين أنه ما في الوجود إلا الله
ونحن , وإن كنا موجودين فإنما وجودنا به , ومن
كان وجوده بغيره فهو بحكم العدم"
والخلاصة أن الحقيقة الوجودية واحدة, لا ثنائــية فيها ولا تعدد , إذا نظرت إليها من وجه قلت : هي الحـــــق , وإذا نظرت إليها من وجه آخر قلت : هي الخلق . وأما ما يلوح لك في الوجود من تناقض وتعدد وتعارض واختلاف فإنـــما هو وهم خادع , وضلال ناشئ عن بلادة الحس وقصور العقل وارتباط الإنسان بالمصالح والغرائز والظروف , ولو أنه تحــرر من هذه القيود وتفلت من هذه الأشراك لأدرك وحدانية الوجود ، ولوقف على الأسرار ، ولا يكون ذلك بالنظر العقلي وإنما بالكشف الصوفي . وليست وحدة الوجود عند ابن عربي وحدة مادية يضحّي فيها بفكرة الألوهية . بل العكس هو الصحيح أي أن الوجود الحقيقي هو وجود الله وحده , أما الخلق فهو شبح زائل وظل عابر.
وطريق المعرفة إنما هي القلب لا العقل , أي الحدس لا المنطق , ذلك أن المعرفة نور يقذفه الله في قلب ابن آدم , لذلك مــا وقف على أسرار النفس " إلا الإلهيـون من الرســــل والصوفية , وأما أصحــــــــاب النظـــر وأرباب الفكرالقدماء، من المتكلميـــــــن في كلامهم على النفس وماهيتها، فما منهم من عثر على حقيقتها، ولا يعطيها النظرُ الفكر أبدا , ومن طلب العلم بها ، من طريق النظر الفكري، فقد اســـتســــمن ذا ورم , ونفخ في غير ضرم"
ويحتل الحب في فلسفة ابن عربي مكانة مرموقة , فهو سر الخلق , ومغزى الوجود , ولولا حب الله لذاته , ورغبته في إبداء صفاته وتجلية كمالاته , ما أشرق في عالم العيان شيء , ولا برز إلى صفحة الوجود مخلوق , فالعالم إذا صـــادر عن حركة حبّية " ولولا هذه المحــبة ما ظهر العالـــم في عينه , فحركته من العـــدم إلى الوجـــود حركة حــب المــوجــد"
ولما كان الحب سبب الوجود كان الوجود كله مشمولا بالرحمة والغفران فلا مذنب و لا آثم إلا فائز بالعفو , والدليل علـــى ذلك أن الثناء جاء بصدق الوعد ،لا بصدق الوعيد . يقول ابن عربي :
" الثناء جاء بصدق الوعد , لا بصدق الوعيد , والحضـرة
الإلهية تطلب الثناء المحمود بالذات , فيثنى عليها بصـدق
الوعد , لا بصدق الوعيد , بل بالتجاوز :" فلا تحسبن الله
مخلف وعده رسله " ولم يقل :" وعيده" ، بل قال :"
ويتجاوز عن سيئاتهم".
وقد نظم ابن عربي هذا المعنى اللطيف , فقال :
فلم يبق إلا صادق الوعد وحـــده وما لوعيـــد الحق عين تعاين
وإن دخلوا دار الشقاء فإنـــــهم على لـــذة فيها نعيـــــــم مباين
نعيم جنــان الخلد, فالأمر واحــد وبينـــهما عند التجلي تبــــاين
يســـمى عذابا من عذوبة طعمه وذاك له كالقشر والقشر صائن
لقد سيطـــــرت فكرة الواحــد على فكـــر ابن عربي , ففسر بهـــــا كـــل ما في الوجود من صــور واعتــــــقادات ومتغيرات، وإذا فليس ثمّ إلا الحق، يتجلى في صور متعددة ، وعقائد متباينة، وديانات شــتــى ، أما العارف فيــدرك أن وراءها جميعا إلها واحدا:
عقد الخلائق في الإله عقائدا وأنا اعتقدت جميع ما عقدوه
لما بدا صورا لهم متحــــولا قالوا بما شهدوا وما جحدوه
ورأى أن الديانات على اختلافها واحدة في جوهرها , لأنها تدعو إلى الواحد الأحد :
لقد صار قلبي قابلا كل صورة فمرعى لغزلان ودير لرهبــان
وبيت لأوثان وكعبة طائــــــف وألواح تـوراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجــهت ركائبه , فالحب ديني وإيماني
والحب سببه الجمال , والجمال هو الله , والله جميل يحب الجمال , فهو يحب الناس لهم ولنفسه، ومن أحــــــــب الجمال لم يحبب سوى الله , وإنما أخرج الله العالم كله ليكون مرآته يرى نفسه فيها , وعلى المحب أن يُصم سمعه إلا عن كلام محبوبه , ويُعمي عينيه عن كل منظور ســـــوى وجه محبوبه , ويُخرس لســـــــانه عن كل كلام إلا عن ذكر محبوبـه ويرمي على خزانة خياله ، فلا يتخيل سوى صورة محبوبه , فبه يسمع وله يسمع , وبه يبصر وله يبصر , وبه يتكلم وله يتكلم .
وللحب الإلهي – عند ابن عربي- وجهان حب الخالق للحق , وحب الحق للخــلق, والحق يبــــادل الخلق حبا بحب واشتياقا باشتياق , بل إن شوقه إلى المشــتاقين أقوى من شـــــوقهم إليه, إن الله الناس يحب الخلق : لهم ولنفسه , ومما جـاء في " فصــوص الحكم " قوله تعالى:" ما ترددت في شــــيء أنا فاعله ترددي في قبض عبدي المؤمن , يكره الموت وأكره مســـــاءته , ولا بدّ له من لقائي".
وفي الختام لا بد لي من الإشارة إلى أن عظمة فلسفة ابن عربي تكمن في روح الانفتـاح , والتســامح والحب, يشهد على ذلك أنها تلتقي بالكثير من العقائد الفلسفية عند غير المسلمين, فهي تلتقي بفكرة الفيـــــــدا عند الهنود التي تقول: إن المعرفة الحقيقية تأتي من طريق الإشراق , وإن الهدف من الحياة هو الاتحاد ببراهمان ، كما تلتقي بمبدأ الطاو عند أهالي الصين الذي يقول : إن الله يتجلى في العالم . كما تلتقي بالأفلاطـــونية الحديثة خصوصا بفكرة الفيـــــض القائلة: إن العالم قد فاض ، وإن النفس الكليّــــة كنور الشمس المشـــرق على غرف عدة , في كل منها جزء منه . وإن النفـس الجزئــــــية تستطيع أن ترجع خلال حياتها ، ولو لحظات معدودة إلى النفس الكلية ؛ لتنال الســـعادة . وهي تلتقي بالنصـرانية أيضا في فكرة المحبة.
وأغرب من هذا أننا نجد أصداء لفلسفة ابن عربي عند كثير من المفكرين من أمثال ســـــــــبينوزا في فكـــــــرة وحدة الوجود , وهيغل في فكرة الجدل ( الديالكتيك ) ، وبرغســون في فكرة الحدس والديمومة , وأغرب من هذا وذاك أننا نجد بذورا من فلسفة ابن عربي لدى السريالية التي تقول : إن المتناقضات قابلة للانحلال . وإن الحقيقة تكمـــن في العـــقل الباطن مستودع الأسرار الكونية... وإذا ففلسفة ابن عربي تؤهله بحق أن يكون فيلسوفا كبيرا ومفكرا عالمــيا من الطـراز الأول .
المصـــــــادر والمراجــــع
1- الفتوحات المكية – ابن عربي- تحقيق د. عثمان يحيى, مراجعة د . إبراهيم مدكور ، الهيئة المصرية العامة للكتاب –
القاهرة 1972.
2- فصوص الحكم – ابن عربي- والتعليقات عليه بقلم أبو العلا عفيفي- دار إحياء الكتب العربية , مصر 1946.
3- ترجمان الأشواق – ابن عربي – دار صادر , بيروت 1961.
4- تاريخ الفكر العربي – د. عمر فروخ , دار العلم للملايين , بيروت 1966.
5- تاريخ الأدب العباسي – تأليف ر . نكلسن – ترجمة صفاء خلوصي – المكتبة الأهلية , بغداد 1967.
6- ابن الفارض سلطان العاشقين – د. محمد مصطفى حلمي – سلسلة أعلام العرب , عدد (15)
وزارة الثقافة والإرشاد القومي – مصر 1963.
7- لقاء القيم في الفكر العربي – عادل العوا – دار شمأل للطباعة والنشر , دمشق 1993.
8- المزاج الحضاري في الفكر العربي -عادل العوا- المطبعة الجديدة , دمشق 1992.
9- الطبقات الكبرى – سيدي عبد الوهاب الشعراني ج/1 (بلا مكان / تاريخ)
10 مجلة " تراث الإنسانية " وزارة الثقافة والإرشاد القومي – المؤسسة العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر –
المجلد الأول (3,2) . مقال " الفتوحات الملكية " للدكتور أبو العلا عفيفي.
11- دائرة المعارف الإسلامية , مادة "ابن [الـ] عربي " ص 343.
12- دائرة المعارف البريطانية.
د . عبد الرحمن دركزللي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولد الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي في " مرسية " بالأندلس سنة 560 هـ ، و ما إن بلغ الثامنة من عمره حتى قصد : إشبيلية " لدراسة الفقه و الحديث الشريف و علوم القرآن ، فأقام بها قرابة ثلاثين ســــــــنة ينهل من مناهل الثقافة و العلم ، ثم إنه عقد العزم على مغادرة الأندلس و النزوح عنها إلى المشــرق ، و كان حينئذ في الثامنة و الثلاثـين فضرب في الآفاق , و طوّف في عدد من الأقطار والأصقاع ( زار مصر و مكة المكرمة و بغداد وحلب و الموصـل و آسية الصغرى ) و كانت شهرته تسبقه إلى كل مكان يحل فيه , كما كان ذوو اليسار يُجرون عليه راتبا كبيرا , و لكنه كان ينفق معظمه في وجوه البر و الخير ( يروى أن أحد الأمراء و هبه بيتا , فما كان منه إلا أن أعطاه لأحد الســــائلين ) , و خلال زيارته لمصر لقي ابن عربي عنتا شديدا , إذ اتهمه أهلها بالزندقة و حاولوا اغتياله , و في مكة المكرمة أحب ابن عربي ابنة الشيخ مكين الدين الأصفهاني نزيل مكة فأعجب بجمالها و مبلغ ذكائها و سعة اطلاعها , لذلك نظم فيها مجموعة من القصائد الغزلية دعاها " ترجمان الأشواق ".
و بعد أمد من الترحال قرر الإقامة بدمشق , فألقى فيها عصا التسيار , و لبث فيها بقية عمره حتى وافته المنية سنة 638 هـ ، فدفن بسفح جبل قاسيون .
عاش ابن عربي حياة حافلة بالتنقل و الأسفار , عامرة بمجالس العلم , غنية بالتجارب , و كان غزير النتاج ، جــــم التآليف , كتب ــ كما قال في إحدى رسائله ــ مئتين وتسعة وثمانين كتابا ورسالة ، و وصفه بروكلمان بأنه " من أخصب المؤلفين عقلا و أوسعهم خيالا " و ذكر أن له نحوا من مئة و خمسين مؤلفا ما تزال باقية بين مخطوط و مطـــبوع . على أنه لم يشغل نفسه بالتأليف وحده , بل شغل شطرا منها بما يشغل الصوفيةُ أنفسهم به عادة من ضروب العبادة و صــــنوف المجاهدة و ألوان المراقبة والمحاسبة .
و أشهر مؤلفاته اثنان : " الفتوحات المكية " و " فصـــوص الحكم " أما الفتوحــــات فموسوعة شاملة في عقـــائد الصوفية , جمع فيه شتات علومهم و مصطلحاتهم في خمسمئة و ستين بابا , وقدم لنا , في الباب التاسع والخمـسين بعد الخمســمئة من الكتاب , خلاصة وافية عنه , ولما طلب ابن عربي من معاصره ابن الفارض أن يكتب شرحا على تائــيتــه . أجابه ابن الفارض بأنه لا يعرف لها شرحا أفضل من كتاب الفتوحات نفسه , أما تسميته بالفتوحات الملكية فلأنه مما فتح الله به عليه في أثناء زيارته لمكة المكرمة .
" كنت نـويت الحــــــج والعمرة , فلــما وصـــلــت أم الـــقرى
أقــــام الله سبحـــانه وتعالــــى في خاطـري أن أعرّف الولي
بفـــــنون من المــــــعارف... وكان الأغلـــب منها ما فتـــح
الله – سبحانه وتعالى- عليّ به عند طوافي في بيته المكرم "
ووصف لنا كيف ألف الفتوحات , فقال :
" جميـــــع ما كتبته وأكتبه في هذا الكتــــــاب إنما هو من
إمـــــلاء إلهي وإلقـــــاء رباني , أو نفـث روحانـــي في
روح كياني ".
أما كتابه الأخر " فصوص الحكم " فيمثل مذهبه في وحدة الوجود , وهو مذهب ظل يضطرب في نفسه نحوا من أربعين سنة وهو لا يجرؤ على الجهر به في جملته ، ولا يقوى على إخراجه في صورة كاملة , ويعد كتــــاب الفتوحــات تمهيدا للفصوص وتوطئة له، يقول نيكلسون عن" فصوص الحكم":
" ولا تقل الفصوص عنها ( أي عن الفتـــوحات المكية ) من حيث
عظم الأهمية , وهي مـــؤلف صغير من سبعة وعشرين فصـــا
أطلق على كل واحد منها اسم نبي , وقد غدت موضوع شروح
عدة في العربية والتركية والفارسية"
ومما هو جدير بالذكر والتنويه أن ابن عربي لم يكن يكتب بدافع التأليف والتصنيف، وإنما كان يكتب وهو رازح تحت وطأة قوة خارقة كانت تلح عليه وتحمله على ذلك حملا ، وقد وصف لنا هذا بقوله :
" إنه كان يرد علي من الحــق موارد تكاد تـحرقنــي
فكنت أتشاغل عنها بتقييد ما يمكن منها , فخرجت
مخرج التأليف لا من حيث القصد".
****
كان ابن عربي - في الحق – ذا شخصية متعددة الجوانب والمواهب , فهو متصوف وفيلسوف وشاعر , وكان ذا مسـلكين في الحياة , فهو رصين تقي أمام الناس ، مرح متساهل أمام أنداده وأصحابه . وكان – كما قال المقّري- " ظاهري المذهب في العبادات , باطني النظر في الاعتقادات " ومع أنه كان ظاهريا فقد نفى أن يكون تابعا لابن حزم أو سواه:
نســـــــــــــبوني إلى ابن حزم وإني لست ممن يقول "قال ابنُ حزم"
لا , ولا غيـــــره , فإن مقــــــالي : " قال نصُ الكتاب" ... ذلك علمي
أو " يقول الرسولُ" أو " أجمع الخلــــــــــــــقُ على ما أقـول " ذلك حكمي
وهو – مع تمسكه بفرائض الإسلام وعقائده – يتخذ الكشـــف الصـــوفي أو " النور الباطني " رائدا له ومصدرا أوحــد في المعرفة.
وقد اختلف الناس في عقيدته , وفي الحكم عليه أشد الاخــتلاف , فبعضهم رفعه إلى علّـــين , وبعضـــهم وضعه مــع الزنادقة والملحدين , يقول ابن العماد:
" وقد تفرق الناس في شأنه شــيعا , وسلكوا في أمــــــره
طرائق قددا , فذهبت طائفة إلى أنه زنديق لا صـــــديق
وقال قوم : أنه واسطة عقد الأوليــــاء ورئيس الأصفياء
وصار آخرون إلى اعتقاد ولايته وتحريم النظر في كتبه"
وكان الفيروزأبادي صاحب " القاموس " من أشد المعجبين به , حتى إنه طرز شرحه على البخاري بكثير من أقواله , كما كان جلال الدين السيوطي يجله ويوقره، حتى إنه صنف في الدفاع عنه كتابا , سماه :" تنبيه الغبي في تبرئة ابن عربـــي" أما عبد الوهاب الشعراني فهو اشد المنتصرين له وأكثر المنصفين, إذ ألف كتابا عنوانه :" اليواقيت والجواهر في بيـــــان عقائد الأكابر", كما ألف كتابا أخر دعاه :" تنبيه الأغبياء على قطرة من بحر علوم الأولياء " وفيهما دفاع شديد عن ابــن عربي وغيره من المتصوفة، وبلغ به الأمر أن لخص كتاب الفتوحات الملكية في كتابه الموسوم بـ " الكبريـــــت الأحمر في بيان علوم الشيخ الأكبر". ومن الأمور الواضحة أن الناس في كل مكان تعلقوا بابن عربي , وتهافتوا على مؤلفاته , يشهد على ذلك كثرة الألقاب التي خلـــعوها عليه , فهو " الشيخ الأكبر" و " الكبريــت الأحمر" و" ابن أفلاطـــون " و"البحر الزاخر" و " سلطان العارفين" ... وعندما ترجم له صفي الدين بن أبي المنصور قال عنه :
" هو الشــــــــيخ الإمام المحقق , رأس أجلاء العارفين والمقربين
صاحب الإشــــــارات الملكوتية , والنفحات القدسية , والأنفاس
الروحانية , والفتح المونــق , والكشف المشرق , والبصـــــائر
الخارقة , والســــرائر الصادقة , والمعارف الباهرة , والحقائق
الزاهرة، له المحل الأرفع من مراتب القرب في منـــازل الأنس
والمورد العذب في مناهل الوصل , والطــول الأعلى في معارج
الدنو، والقدم الراسخة في التمكين من أحوال النهاية ، والبـاع
الطويل في أحكام الولاية" .
وفلسفة ابن عربي تقو م أساسا على مبدأ " وحدة الوجود " Pantheism , ومفادها أن العالم بجميع مظاهره هو الله , وأن ليس في الوجود سواه , وبناء على هذا فالحقيقة عند ابن عربي واحدة , مظهرها العالم , وجوهرهـــا الله , لذلك رأيناه في الفتوحات يقول :" سبحان من خلق الأشياء وهو عينها " وسمعناه في الفصوص يقول:
يا خالق الأشياء في نفسه أنت لما تخلقه جامـــــــــــع
تخلق ما لا ينتهي كــــونُه فيك , فأنت الضيق الواسع
وقد بث مذهبه هذا في تضاعيف كتبه ونثرها في مواضع مختلفة من تصانيفه , وكان تشتيتها عن قصد , فهو يخشى إذا عرضها عرضا كاملا واضحا أن يثير عليه حفيظة الجاهلين وغضب العامة . قال:
" جئت بها مبددة في أبواب هذا الكتاب ، مستوفاة مبينة
لكنها – كما ذكرنا- متفرقة , فمن رزقــــه الله الفهم فيها
يعرف أمرها , ويميزها عن غيـــرها , فإنها العلم الحق
والقول الصدق"
ويترتب على قوله بوحدة الوجود أن الله هو الأصل وأن العالم صدر عنه وفاض منه . ذلك أنه أراد بإيجــاد العالم أن يرى نفسه ويظهر جماله , فخلقه ليكون بمنزلة المرأة، تتجلى فيه رحمته وقدرته وعدالته ، كما جاء في الحديـــث القدسي الشريف : "كنت كنزا مخفيا , فأحببت أن أُعرف, فخلقت الخلق , فبه عرفوني" وقد يفهم بعضهم من هذا أن ابــــن عربي يقول بالإثنينية , وليس الأمر كذلك , لأن الحقيقة عنده واحدة , هي الله , وليس المراد بالخلق عنده أن الله أوجد العالم من عدم, وإنما هو الفيض الإلهي , فالله بمنزلة " الواحد" من سائر الأعداد , يتكرر فيها على صور متعددة وأشـــكال متــكثّرة وقد صرح بهذا قائلا:
" وقد ثبت عند المحققين أنه ما في الوجود إلا الله
ونحن , وإن كنا موجودين فإنما وجودنا به , ومن
كان وجوده بغيره فهو بحكم العدم"
والخلاصة أن الحقيقة الوجودية واحدة, لا ثنائــية فيها ولا تعدد , إذا نظرت إليها من وجه قلت : هي الحـــــق , وإذا نظرت إليها من وجه آخر قلت : هي الخلق . وأما ما يلوح لك في الوجود من تناقض وتعدد وتعارض واختلاف فإنـــما هو وهم خادع , وضلال ناشئ عن بلادة الحس وقصور العقل وارتباط الإنسان بالمصالح والغرائز والظروف , ولو أنه تحــرر من هذه القيود وتفلت من هذه الأشراك لأدرك وحدانية الوجود ، ولوقف على الأسرار ، ولا يكون ذلك بالنظر العقلي وإنما بالكشف الصوفي . وليست وحدة الوجود عند ابن عربي وحدة مادية يضحّي فيها بفكرة الألوهية . بل العكس هو الصحيح أي أن الوجود الحقيقي هو وجود الله وحده , أما الخلق فهو شبح زائل وظل عابر.
وطريق المعرفة إنما هي القلب لا العقل , أي الحدس لا المنطق , ذلك أن المعرفة نور يقذفه الله في قلب ابن آدم , لذلك مــا وقف على أسرار النفس " إلا الإلهيـون من الرســــل والصوفية , وأما أصحــــــــاب النظـــر وأرباب الفكرالقدماء، من المتكلميـــــــن في كلامهم على النفس وماهيتها، فما منهم من عثر على حقيقتها، ولا يعطيها النظرُ الفكر أبدا , ومن طلب العلم بها ، من طريق النظر الفكري، فقد اســـتســــمن ذا ورم , ونفخ في غير ضرم"
ويحتل الحب في فلسفة ابن عربي مكانة مرموقة , فهو سر الخلق , ومغزى الوجود , ولولا حب الله لذاته , ورغبته في إبداء صفاته وتجلية كمالاته , ما أشرق في عالم العيان شيء , ولا برز إلى صفحة الوجود مخلوق , فالعالم إذا صـــادر عن حركة حبّية " ولولا هذه المحــبة ما ظهر العالـــم في عينه , فحركته من العـــدم إلى الوجـــود حركة حــب المــوجــد"
ولما كان الحب سبب الوجود كان الوجود كله مشمولا بالرحمة والغفران فلا مذنب و لا آثم إلا فائز بالعفو , والدليل علـــى ذلك أن الثناء جاء بصدق الوعد ،لا بصدق الوعيد . يقول ابن عربي :
" الثناء جاء بصدق الوعد , لا بصدق الوعيد , والحضـرة
الإلهية تطلب الثناء المحمود بالذات , فيثنى عليها بصـدق
الوعد , لا بصدق الوعيد , بل بالتجاوز :" فلا تحسبن الله
مخلف وعده رسله " ولم يقل :" وعيده" ، بل قال :"
ويتجاوز عن سيئاتهم".
وقد نظم ابن عربي هذا المعنى اللطيف , فقال :
فلم يبق إلا صادق الوعد وحـــده وما لوعيـــد الحق عين تعاين
وإن دخلوا دار الشقاء فإنـــــهم على لـــذة فيها نعيـــــــم مباين
نعيم جنــان الخلد, فالأمر واحــد وبينـــهما عند التجلي تبــــاين
يســـمى عذابا من عذوبة طعمه وذاك له كالقشر والقشر صائن
لقد سيطـــــرت فكرة الواحــد على فكـــر ابن عربي , ففسر بهـــــا كـــل ما في الوجود من صــور واعتــــــقادات ومتغيرات، وإذا فليس ثمّ إلا الحق، يتجلى في صور متعددة ، وعقائد متباينة، وديانات شــتــى ، أما العارف فيــدرك أن وراءها جميعا إلها واحدا:
عقد الخلائق في الإله عقائدا وأنا اعتقدت جميع ما عقدوه
لما بدا صورا لهم متحــــولا قالوا بما شهدوا وما جحدوه
ورأى أن الديانات على اختلافها واحدة في جوهرها , لأنها تدعو إلى الواحد الأحد :
لقد صار قلبي قابلا كل صورة فمرعى لغزلان ودير لرهبــان
وبيت لأوثان وكعبة طائــــــف وألواح تـوراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجــهت ركائبه , فالحب ديني وإيماني
والحب سببه الجمال , والجمال هو الله , والله جميل يحب الجمال , فهو يحب الناس لهم ولنفسه، ومن أحــــــــب الجمال لم يحبب سوى الله , وإنما أخرج الله العالم كله ليكون مرآته يرى نفسه فيها , وعلى المحب أن يُصم سمعه إلا عن كلام محبوبه , ويُعمي عينيه عن كل منظور ســـــوى وجه محبوبه , ويُخرس لســـــــانه عن كل كلام إلا عن ذكر محبوبـه ويرمي على خزانة خياله ، فلا يتخيل سوى صورة محبوبه , فبه يسمع وله يسمع , وبه يبصر وله يبصر , وبه يتكلم وله يتكلم .
وللحب الإلهي – عند ابن عربي- وجهان حب الخالق للحق , وحب الحق للخــلق, والحق يبــــادل الخلق حبا بحب واشتياقا باشتياق , بل إن شوقه إلى المشــتاقين أقوى من شـــــوقهم إليه, إن الله الناس يحب الخلق : لهم ولنفسه , ومما جـاء في " فصــوص الحكم " قوله تعالى:" ما ترددت في شــــيء أنا فاعله ترددي في قبض عبدي المؤمن , يكره الموت وأكره مســـــاءته , ولا بدّ له من لقائي".
وفي الختام لا بد لي من الإشارة إلى أن عظمة فلسفة ابن عربي تكمن في روح الانفتـاح , والتســامح والحب, يشهد على ذلك أنها تلتقي بالكثير من العقائد الفلسفية عند غير المسلمين, فهي تلتقي بفكرة الفيـــــــدا عند الهنود التي تقول: إن المعرفة الحقيقية تأتي من طريق الإشراق , وإن الهدف من الحياة هو الاتحاد ببراهمان ، كما تلتقي بمبدأ الطاو عند أهالي الصين الذي يقول : إن الله يتجلى في العالم . كما تلتقي بالأفلاطـــونية الحديثة خصوصا بفكرة الفيـــــض القائلة: إن العالم قد فاض ، وإن النفس الكليّــــة كنور الشمس المشـــرق على غرف عدة , في كل منها جزء منه . وإن النفـس الجزئــــــية تستطيع أن ترجع خلال حياتها ، ولو لحظات معدودة إلى النفس الكلية ؛ لتنال الســـعادة . وهي تلتقي بالنصـرانية أيضا في فكرة المحبة.
وأغرب من هذا أننا نجد أصداء لفلسفة ابن عربي عند كثير من المفكرين من أمثال ســـــــــبينوزا في فكـــــــرة وحدة الوجود , وهيغل في فكرة الجدل ( الديالكتيك ) ، وبرغســون في فكرة الحدس والديمومة , وأغرب من هذا وذاك أننا نجد بذورا من فلسفة ابن عربي لدى السريالية التي تقول : إن المتناقضات قابلة للانحلال . وإن الحقيقة تكمـــن في العـــقل الباطن مستودع الأسرار الكونية... وإذا ففلسفة ابن عربي تؤهله بحق أن يكون فيلسوفا كبيرا ومفكرا عالمــيا من الطـراز الأول .
المصـــــــادر والمراجــــع
1- الفتوحات المكية – ابن عربي- تحقيق د. عثمان يحيى, مراجعة د . إبراهيم مدكور ، الهيئة المصرية العامة للكتاب –
القاهرة 1972.
2- فصوص الحكم – ابن عربي- والتعليقات عليه بقلم أبو العلا عفيفي- دار إحياء الكتب العربية , مصر 1946.
3- ترجمان الأشواق – ابن عربي – دار صادر , بيروت 1961.
4- تاريخ الفكر العربي – د. عمر فروخ , دار العلم للملايين , بيروت 1966.
5- تاريخ الأدب العباسي – تأليف ر . نكلسن – ترجمة صفاء خلوصي – المكتبة الأهلية , بغداد 1967.
6- ابن الفارض سلطان العاشقين – د. محمد مصطفى حلمي – سلسلة أعلام العرب , عدد (15)
وزارة الثقافة والإرشاد القومي – مصر 1963.
7- لقاء القيم في الفكر العربي – عادل العوا – دار شمأل للطباعة والنشر , دمشق 1993.
8- المزاج الحضاري في الفكر العربي -عادل العوا- المطبعة الجديدة , دمشق 1992.
9- الطبقات الكبرى – سيدي عبد الوهاب الشعراني ج/1 (بلا مكان / تاريخ)
10 مجلة " تراث الإنسانية " وزارة الثقافة والإرشاد القومي – المؤسسة العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر –
المجلد الأول (3,2) . مقال " الفتوحات الملكية " للدكتور أبو العلا عفيفي.
11- دائرة المعارف الإسلامية , مادة "ابن [الـ] عربي " ص 343.
12- دائرة المعارف البريطانية.
0 Comments:
إرسال تعليق
<< Home