الزوايا الحادة في فكـر ابن عربي
الزوايا الحادة في فكـر ابن عربي
د. عبد الرحمن دركزللي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ما عرف تاريخ الفكر الإســـــــلامي ـ بعد المعري ـ رجلا احتدم حوله الجدل وثار حوله الخلاف كابن عربي ، فقد انقسم الناس حوله حتى بلغوا حد التناقض ، فبعضهم أكبره وأجله ورفعه إلى عليين ، وبعضهم هوى به إلى الحضيض ، يقول ابن العماد :
" وقد تفرق الناس في شأنه شيعا ، وسلكوا في أمره طرائق قددا
فذهبت طائفة إلى أنه زنديق لا صدّيق ، وقال قوم : إنه واسطة
عقد الأولياء ورئيس الأصفياء "
و مما لا ريب فيه أن هذا الخلاف الذي نشب بين الناس راجع إلى أن فكره اشـــــــتمل على جوانب إيجابية وجوانب ســـــــلبية ، لذلك أقبل بعضـهم عليه ، وأعرض بعضهم عنه ، وكل منهم يحكم عليه وفقا لعقيدته وظروفه ومقدار ثقافته وسعة أفقه وزاوية نظره .
أما نحن ، وبعد مرور ثمانـــيـــة قرون ، فلنا أيضا وجهة نظر نبديها ونقولها ، ولو أنك طالبتني بإبداء الرأي لقلت لك بصــــــــراحة : إن في فكر ابن عربي خصيصتين تصعدان به إلى الأفق الإنساني الرحب ، وهما : التجاوز و الانفتاح ، وســــــــأفصّل القول فيهما ، ثم أنقلب لأبيّن موقفي العام من فكره .
التجــــــــــاوز
يحاول ابن عربي، انطــــلاقا من نظريته في وحدة الوجــــــــــــود ، أن يقـــــول : إن ما نجده في الطبيعة من تناقض ، إنما هو وهم لا أســـــــاس له ، بل خداع بصـــري ناجم عن بلادة حواسـنا وقصـور عقولنا ، وإن ما نجده في العالم من كثرة وتعدد ما هو إلا زيغ ، ذلك أن عقولنا محدودة ، عاجزة عن إدراك الوحدة الكلية للأشياء ، وعن رؤية المجموع العام رؤية كلية شاملة ، ولو أن الإنســـان تحرر من قيوده وأغلالــه لأدرك أن العالم ليس ســـــــوى مظاهر متنوعة أو تجليــــات متعددة للذات الإلهية وأنه ليس في الوجود كله شيء إلا الله ، وإذا فالوجود ــ في نهاية الأمر ــ واحد ، و وجود المخلوقــــات هو عين الخالق ، وأما ما يظهر للرائي من اختلاف بينهما فهو ناجم عن الحس الخادع والعقل القاصر عن إدراك الحقيقة الواحدة ، يقول ابن عربي :
" سبحان من خلق الأشياء وهو عينهـــــــــا "
وينبني على هذا القول أن الفرق بين الخالق والمخلوق غير موجود ، وهذا الكشف هو الذي حمل الحلاج أيضا على القول : " أنا الحــق " و " ليس في الجبة إلا اللـــه " ، وهو ما دفع الجنيد إلى القول : " سبحاني " ، وقد صرّح ابن عربي بهذه الفكرة في غير موضع ، فقال :
فأنت عبـــد وأنت رب لمن له فيــــــه أنت عبـد
وأنت رب وأنت عبــد لمن له في الخطاب عهد
ثم إنه عقّب على ذلك ، فقال : " رضي الله عن عبيــــــــــده ؛ فهم مرضيون ، و رضـوا عنه فهو مرضيّ ، فتقابلت الحضرتان " وفي الفتوحات المكية قال: " فمن ســــــــعى إلى هذه الأنوارحتى وصل إلى ما يكشفه طريقها من الأسرار فقد عرف المرتبة التي لها وجـد ، وصحّ له المقـام الإليّ
و له ســـجد ، فهو الربّ والمربوب " وفســّر ذلك التعارض الظاهر للحس قائلا :
" الشيء الواحــد يتنوّع في عيون الناظريـن ، هكذا هو التجلي الإلهي
فإن شئت قلت : إن الله تجلى [ في ] مثل هذا الأمر ، وإن شئت قلت:
إن العالم ــ في النظر إليه وفيه ــ مثــل الحق في التجلي ، فيتنوّع في
عين الناظر بحسب مزاج الناظـر ، أو يتنوّع مزاج الناظـــــر لتنوّع
التجلّي ، وكل هذا سائغ في الحقائق "
و لو حاولنا أن نوضح مقصد ابن عربي لقلنا : إن البشر ينظرون من زاوية غير تلك التي ينظر منها الحق ، ولو اطلعوا على الحقيقة لرأوا الأشياء رؤية مختلفة أو مناقضة ، ومن الأمثلة التي ساقها لإيضاح فكرته مثال سيدنا إبراهيم عليه السلام :
" فنعيم أهل النار ــ بعد استيفاء الحقوق ــ نعيم خليل الله حين ألقي في
النار ، فإنه ــ عليه الســـــــلام ــ تعذب برؤيتها وبما تعوّد في علمه
وتقرر من أنها صورة تؤلم من جاورها من الحيوان ، وما علم مراد
الله فيها ومنها في حقه ، فبعد وجود هذه الآلام وجد بردا وسـلاما مع
شهود الصورة اللونية في حقه وهي نار في عيون الناس ؛ فالشـــيء
الواحد يتنوع في عيون الناظرين ".
ويضرب لنا مثلا آخـر من عالم الموت والحياة ، فيقول :
" و لو أن الميت والمقتول ــ أي ميت كان أو أي مقتول كان ــإذا مات
لا يرجع إلى الله لم يقض الله بموت أحد و لا شــرع قتله ، فالكل في
قبضته؛ فلا فقدان في حقه . فشــــرع القتل ، وحكم بالموت لعلمه أن
عبده لا يفوتـه ؛ فهو راجع إليه " .
يريد أن يقول : إن قتله ــ وإن كان في الظاهر ــ موتا إنما هو حياة في الحقيقة ؛ لأنه يرجــع إلى
الأصل الذي صدر عنه وانبعث منه ، وهذا شبيه بقولنا : " رحمه الله " ، فالموت الذي ــ هو في
الظاهر ــ شـــــــر إنما هو رحمة وحياة ، ولكن الناس لا يعلمون . وهذا أيضا يشــــبه قولنا : إن الشهادة حياة ؛ لأن الشهداء ــ كما هو معلوم ــ يحيون في ذاكـــــرة الناس ؛ فهم أحياء وإن فنيت أجسادهم كما أنهم أحياء أيضا عند ربهم يرزقون .
و يتمادى ابن عربي في إزالة الفوارق بين المتناقضات ، حتى إنه يرى أن الخير والشر
متساويان ، وأن الحق والباطل متكافئان ، كما أن موســـــى وفرعون متكاملان ؛ إذ إن كلا منهما تجل للذات الإلهية ، كما أن كلا منهما يعبر عن الإرادة الإلهية و يؤدي دورا محددا على مســـرح الوجود ،فلولا الجاهلون ما كان للمعلمين من عمل ، و لولا المجرمــــون ما كان لأهل القانون من مشغلة ، ولولا المرضى لهلك الأطبــاء جوعا ، ولولا ظلم فرعون وطغيانه ما كان لسعي موسى من معنى ، بل ما كان لنبوته من مسوغ .
وإذا فالوجـود بأسره يجري وفقا لإرادة إلهيـــة لا نعلم من أســـــــــــــرارها إلا جانبا فقط ، ولكن الراسخين في العلم ممن كشف الله عنهم الغطاء، وحســــر لهم الحجب ، يستطيعون فهمهـا و لئن اعترف ابن عربي بوجود الشـــــــر كنقيض للخير فإنه ــ و تحت مفهوم الرحمــــة الإلهية ــ ينفيه حتى إنه يصرح بأن الوجود كله خير ، وأما ما ظهر من شر فهو عرض محض :
" الثناء بصدق الوعد لا بصدق الوعيد ، والحضــرة الإلهيـــــة تطلب الثناء
المحمود بالذات ، فيثنى عليها بصدق الوعد لا بصدق الوعيد ، بل بالتجاوز
( فلا تحسبن الله مخلف وعده رســـــــــله ) لم يقل : ( وعيــــده ) ، بل قال :
( و يتجاوز عن سيئاتهم ) " . ثم أنشــــــــــــــد :
فلم يبق إلا صادق الوعد وحـــده وما لوعيــد الحق عين تعايـن
وإن دخلوا دار الشـــــــقاء فإنهم على لذة فيها نعيـــــم مبايـــــن
نعيم جنان الخلد ؛ فالأمر واحــد و بينهما عند التجــــــلي تبــاين
يسمّى عذابا من عذوبة طعمــــه وذاك له كالقشر والقشر صاين
وإذا فجميع الخلق ــ في النهاية ــ سيفوزون بالنعيم ، حتى أولئك الذين ظلموا أنفسهم وظلموا الناس ؛ فهم سيدخلون النار لكنهم سيتمتعون بلذة من نوع آخــر :
" فمن عباد الله من تدركهم تلك الآلام في الحياة الأخرى في دار تسمى
جهنم ، ومع ذلك لا يقطع أحد من أهل العلـــم الذين كشـفوا الأمر على
ما هوعليه ، أنه لا يكون لهم في تلك الدار نعيــــم خاص بهم ، إما بفقد
ألم كانوا يجدونه فارتفع عنهم ، فيكون نعيمهم راحتهم عن وجدان ذلك
الألم " .
وعلل ابن عربي تلك الرحمة التي سيلقاها الخاطئون بأن الإرادة الإلهية ، وهي التي ندبتهم للقيام
بدور الشر والأذى ، لا يعقل أن تحاسبهم على إثم ارتكبوه أو ذنب اقترفوه ، فقال :
" وكانوا في السعي في أعمالهم على صراط الرب المســــتقيم
لأن نواصيهم كانت بيد من له هذه الصفة ، فما مشوا بنفوسهم
وإنما مشوا بحكم الجبر إلى أن وصلوا إلى عين القرب "
كما قال في موضع آخـر :
" ما من دابة إلا هو آخــــذ بناصــــــيتها ، إن ربي على صـــــــــراط
مستقيم . فكل ماش فعلى صــــراط الرب المستقيم فهم غير مغضوب
عليهم من هذا الوجه ولا ضالـون ، فكما كان الضلال عارضا فكذلك
الغضب الإلهي عارض ، والمآل إلى الرحمة التي وسعت كل شـيء
وهي السابقة "
وقال في موضع آخـــر : " ولما حيرتني هذه الحقيقة أنشــدت على حكم الطريقة الخليقة :
الرب حق والعبـــــد حق يا ليت شعري من المكلّف ؟
إن قلت : عبد فذاك ميت أو قلت : رب ، أنى يكلف؟
وعلى هذا النحو يمضي ابن عربي فيزيل التناقضات القائمة في الوجود بين الخير والشر و الوهم
والحقيقة والخالق والعبد والطيب والخبيث والنعيم والشقاء والحي والجامد ، بحجة أن العادات والأعراف والأغراض والطباع هي التي أوحت بذلك ، كما يرى أنه لا معنى للتكليف ، فالثواب والعقاب من الأمور التي خدعت بها العامة ، وما هي إلا أوهام ، إذ الحق خير محض :
" و ما ثم إلا الاعتقادات ، فالكل مصيب ، وكل مصيب مأجور
و كل مأجور سعيد "
الانفتــــــــــاح
فإذا ضربنا صفحا عن التجاوز ، وانتقلنا إلى الخصيصة الثانية وهي الانفتاح وجدنا أن ابن عربي بقول بمبدأ المحبة ، فالمحبة عنده سر الوجود وسبب التجلي الإلهي :
" فلولا هذه المحبة ما ظهر العالم في عينه ، فحركته من العدم
إلى الوجود حركة حب الموجــد " .
وإذا فابن عربي يرى أن الحركة في الكون ما هي إلا حركة حبية ويستأنس بقوله (ص) عن ربه : " كنت كنزا لم أعرف فأحببت أن أعرف " .
وإذا كان الحب محرك الوجود وسر الحياة فلتكن حياتنا حبا و عطفا وحنانا ، أو بمعنى عصري لتكن حياتنا انفتاحا على الدنيا كلها وعلى الناس جميعهم على اختلاف دياناتهم وعقائدهم ، وليكن الحب دينا لنا نمارسه ونحياه ، فلا حقد ولا كراهية ولا تعصب ، بل تسامح وغفران :
لقد صار قلبي قابلا كل صورة فمرعى لغزلان ودين لرهبــان
وبيت لأوثان وكعبـــــة طائف وألواح توراة و مصحف قرآن
أدين بدين الحــب أنى توجهت ركائبه ، فالحب ديني وإيماني
و مما يدل على انفتاح ابن عربي وشمول رؤيته أنه اتفق في آرائه مع الكثير من الفلسفات
و العقائد ، وربما كان قد اقتبس منها لكنه صهرها وصاغها صـــــياغة رائعة تشهد له بالعبقرية ، فهو يلتقي بفكرة الفيدا عند الهنود التي تقول: إن المعرفة الحقيقية تأتي من طريق الإشراق ، وإن الهدف من الحياة إنما هو الاتحاد ببراهمن .
كما يلتقي بمبدأ الطاو في فلسفة كونفوشيوس الذي يقول : إن الله يتجلى للعالـــــم ، وإن على الإنسان أن يزكي نفسه ويطهرها كي تكون صالحة لتلقي الإشراق .
و ابن عربي يلتقي أيضا بالأفلاطونية الحديثة و لا سيما بفكرة أفلوطين التي تقول : إن العالم
قد فاض ، وإن النفس الكلية كنور الشمس المشرق على عدة غرف ، في كل منها جزء من النور
ولكنه ليس النور كله ، وإن النفس الجزئية تستطيع أن ترجع ــ في أثناء الحياة الدنيا ــ إلى النفس الكلية للحظات معدودة كي تنعم بالسعادة .
و يلتقي أيضا مع النصرانية في فكرة الحب .
وأغرب من ذلك كله أن فلسفته تتلاقى مع كثير من أفكار الفلاســــــــفة الغربيين ، ولا سيما اسبينوزا الذي يقول بوحدة الوجود ، وهيغل الذي يقول بالديالكتيك ، وبمذهب الســـــــريالية الذي
يقول بتصافح المتناقضات وبقصور العقل عن إدراك الوحدة الكلية للكون ، وبمذهب برغســـون الذي آمن بالحدس وقدرته ــ بخلاف العقل ــ على إدراك الديمومة ، والحق أن فلســفة ابن عربي
وإن تعارضت ، مع الفكر الإسلامي الرسمي ، تستحق التأمل والإكبار لأنها تدعــــو إلى فلسفة إنسانية شــــاملة قوامها المحبة والانفتاح .
والآن دعونا نعقد مقارنة بين فكر ابن عربي والإســــــــلام لنقف على أبرز الجوانب التي جعلت بعضهم يرفض فكره .
(1) فكرة وحدة الوجود فكرة يرفضها الإسلام ، لأن القرآن الكريم ــ كما هو معروف ــ يقيم
انفصالا حادا بين الخالق والمخلوق ، ولا ســــــبيل إلى التوحيد بينهما ، فبينهما برزخ لا يبغيان ، ولئن وردت في القرآن الكريم بعض الإشــــارات التي يمكن أن تتخذ دليلا على الاتحاد ، مثل قوله عز وجل : ( ونفخنا فيه من روحنا ) فإن عيسى عليه السلام يظل في نظر الإسلام عبدا مخلوقا لله ، أما القول بألوهيته فأمر غير مقبول مطلقا عند المسلمين .
(2) فكرة المحبة فكرة خصبة وجيدة ، والإسلام لا يعارضها بل يؤيدها لأنه دين سلام ، على
أن الانفتاح على الديانات شيء والذوبان فيها شيء آخــر .
(3 ) فكرة الإشراق فكرة مرفوضة تماما عند المســـــــــلمين ، ولكن يمكن قبولها جزئيا على
أساس أن الله قد يلهم بعض البشـــــر أو يكشـــف عن بصائرهم ، أما الذهاب إلى ما هو
أبعد من ذلك فأمر مرفوض .
(4) فكرة الحتمية فكرة لها بعض الجذور في الإسلام ، بيد أنها تتعارض تعارضا شديدا مع
مع فكرة التكليف والحساب والثواب والعقاب وهي أمور ألح عليها الإسلام .
( 5) فكرة الاعتماد على القلب كمصدر للمعرفة فكرة إيجابية يؤيدها الإسلام ويدعــــو إليها
إلا أنه ــ في الوقت نفسه ــ يلح على العقل كمصدر أساسي من مصادر المعرفة ، ذلك
أن العقل يدعم الإيمان ويقويه .
(6 ) فكرة إلغاء التعارض بين الخير والشر أو الحق والباطل .. فكرة مخيفة عند المسلمين
لأنها تفتح المجال للفساد والانحلال والتواكل والتخاذل لذلك يســـــــــتحيل قبولها ، إذ إن
قبولها يتعارض مع التكليف والثواب والعقاب ..
(7) فكرة أن الآثمين والمذنبين سيدخلون الجنة فكرة مرفوضة ، وإن كان لها وجود جزئي
في الإسلام ( فالمسلم الآثم سيدخل الجنة بعد أن يعذب قليلا)
وخلاصة القول أن ابن عربي أراد أن يفتح باب النبوة من جديد بعد أن أغلقه الإسلام وعجز عن الاقتناع بفكرة الخلق من العدم فنادى بفكرة وحدة الوجود وبألوهية الإنسان ، ويشـــهد على ذلك أنه روى عن نفسه أحلاما ، وزعم أن له مكاشفات مع الله والرسول ، و كتب بطريقــــة رمزية تشبه ما في الكتب الدينية ، وعندما خشي أن ينادي بالنبوة ادعى الولاية ، فزعم أنه قطب زمانه والزمان التالي أيضا .
د. عبد الرحمن دركزللي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ما عرف تاريخ الفكر الإســـــــلامي ـ بعد المعري ـ رجلا احتدم حوله الجدل وثار حوله الخلاف كابن عربي ، فقد انقسم الناس حوله حتى بلغوا حد التناقض ، فبعضهم أكبره وأجله ورفعه إلى عليين ، وبعضهم هوى به إلى الحضيض ، يقول ابن العماد :
" وقد تفرق الناس في شأنه شيعا ، وسلكوا في أمره طرائق قددا
فذهبت طائفة إلى أنه زنديق لا صدّيق ، وقال قوم : إنه واسطة
عقد الأولياء ورئيس الأصفياء "
و مما لا ريب فيه أن هذا الخلاف الذي نشب بين الناس راجع إلى أن فكره اشـــــــتمل على جوانب إيجابية وجوانب ســـــــلبية ، لذلك أقبل بعضـهم عليه ، وأعرض بعضهم عنه ، وكل منهم يحكم عليه وفقا لعقيدته وظروفه ومقدار ثقافته وسعة أفقه وزاوية نظره .
أما نحن ، وبعد مرور ثمانـــيـــة قرون ، فلنا أيضا وجهة نظر نبديها ونقولها ، ولو أنك طالبتني بإبداء الرأي لقلت لك بصــــــــراحة : إن في فكر ابن عربي خصيصتين تصعدان به إلى الأفق الإنساني الرحب ، وهما : التجاوز و الانفتاح ، وســــــــأفصّل القول فيهما ، ثم أنقلب لأبيّن موقفي العام من فكره .
التجــــــــــاوز
يحاول ابن عربي، انطــــلاقا من نظريته في وحدة الوجــــــــــــود ، أن يقـــــول : إن ما نجده في الطبيعة من تناقض ، إنما هو وهم لا أســـــــاس له ، بل خداع بصـــري ناجم عن بلادة حواسـنا وقصـور عقولنا ، وإن ما نجده في العالم من كثرة وتعدد ما هو إلا زيغ ، ذلك أن عقولنا محدودة ، عاجزة عن إدراك الوحدة الكلية للأشياء ، وعن رؤية المجموع العام رؤية كلية شاملة ، ولو أن الإنســـان تحرر من قيوده وأغلالــه لأدرك أن العالم ليس ســـــــوى مظاهر متنوعة أو تجليــــات متعددة للذات الإلهية وأنه ليس في الوجود كله شيء إلا الله ، وإذا فالوجود ــ في نهاية الأمر ــ واحد ، و وجود المخلوقــــات هو عين الخالق ، وأما ما يظهر للرائي من اختلاف بينهما فهو ناجم عن الحس الخادع والعقل القاصر عن إدراك الحقيقة الواحدة ، يقول ابن عربي :
" سبحان من خلق الأشياء وهو عينهـــــــــا "
وينبني على هذا القول أن الفرق بين الخالق والمخلوق غير موجود ، وهذا الكشف هو الذي حمل الحلاج أيضا على القول : " أنا الحــق " و " ليس في الجبة إلا اللـــه " ، وهو ما دفع الجنيد إلى القول : " سبحاني " ، وقد صرّح ابن عربي بهذه الفكرة في غير موضع ، فقال :
فأنت عبـــد وأنت رب لمن له فيــــــه أنت عبـد
وأنت رب وأنت عبــد لمن له في الخطاب عهد
ثم إنه عقّب على ذلك ، فقال : " رضي الله عن عبيــــــــــده ؛ فهم مرضيون ، و رضـوا عنه فهو مرضيّ ، فتقابلت الحضرتان " وفي الفتوحات المكية قال: " فمن ســــــــعى إلى هذه الأنوارحتى وصل إلى ما يكشفه طريقها من الأسرار فقد عرف المرتبة التي لها وجـد ، وصحّ له المقـام الإليّ
و له ســـجد ، فهو الربّ والمربوب " وفســّر ذلك التعارض الظاهر للحس قائلا :
" الشيء الواحــد يتنوّع في عيون الناظريـن ، هكذا هو التجلي الإلهي
فإن شئت قلت : إن الله تجلى [ في ] مثل هذا الأمر ، وإن شئت قلت:
إن العالم ــ في النظر إليه وفيه ــ مثــل الحق في التجلي ، فيتنوّع في
عين الناظر بحسب مزاج الناظـر ، أو يتنوّع مزاج الناظـــــر لتنوّع
التجلّي ، وكل هذا سائغ في الحقائق "
و لو حاولنا أن نوضح مقصد ابن عربي لقلنا : إن البشر ينظرون من زاوية غير تلك التي ينظر منها الحق ، ولو اطلعوا على الحقيقة لرأوا الأشياء رؤية مختلفة أو مناقضة ، ومن الأمثلة التي ساقها لإيضاح فكرته مثال سيدنا إبراهيم عليه السلام :
" فنعيم أهل النار ــ بعد استيفاء الحقوق ــ نعيم خليل الله حين ألقي في
النار ، فإنه ــ عليه الســـــــلام ــ تعذب برؤيتها وبما تعوّد في علمه
وتقرر من أنها صورة تؤلم من جاورها من الحيوان ، وما علم مراد
الله فيها ومنها في حقه ، فبعد وجود هذه الآلام وجد بردا وسـلاما مع
شهود الصورة اللونية في حقه وهي نار في عيون الناس ؛ فالشـــيء
الواحد يتنوع في عيون الناظرين ".
ويضرب لنا مثلا آخـر من عالم الموت والحياة ، فيقول :
" و لو أن الميت والمقتول ــ أي ميت كان أو أي مقتول كان ــإذا مات
لا يرجع إلى الله لم يقض الله بموت أحد و لا شــرع قتله ، فالكل في
قبضته؛ فلا فقدان في حقه . فشــــرع القتل ، وحكم بالموت لعلمه أن
عبده لا يفوتـه ؛ فهو راجع إليه " .
يريد أن يقول : إن قتله ــ وإن كان في الظاهر ــ موتا إنما هو حياة في الحقيقة ؛ لأنه يرجــع إلى
الأصل الذي صدر عنه وانبعث منه ، وهذا شبيه بقولنا : " رحمه الله " ، فالموت الذي ــ هو في
الظاهر ــ شـــــــر إنما هو رحمة وحياة ، ولكن الناس لا يعلمون . وهذا أيضا يشــــبه قولنا : إن الشهادة حياة ؛ لأن الشهداء ــ كما هو معلوم ــ يحيون في ذاكـــــرة الناس ؛ فهم أحياء وإن فنيت أجسادهم كما أنهم أحياء أيضا عند ربهم يرزقون .
و يتمادى ابن عربي في إزالة الفوارق بين المتناقضات ، حتى إنه يرى أن الخير والشر
متساويان ، وأن الحق والباطل متكافئان ، كما أن موســـــى وفرعون متكاملان ؛ إذ إن كلا منهما تجل للذات الإلهية ، كما أن كلا منهما يعبر عن الإرادة الإلهية و يؤدي دورا محددا على مســـرح الوجود ،فلولا الجاهلون ما كان للمعلمين من عمل ، و لولا المجرمــــون ما كان لأهل القانون من مشغلة ، ولولا المرضى لهلك الأطبــاء جوعا ، ولولا ظلم فرعون وطغيانه ما كان لسعي موسى من معنى ، بل ما كان لنبوته من مسوغ .
وإذا فالوجـود بأسره يجري وفقا لإرادة إلهيـــة لا نعلم من أســـــــــــــرارها إلا جانبا فقط ، ولكن الراسخين في العلم ممن كشف الله عنهم الغطاء، وحســــر لهم الحجب ، يستطيعون فهمهـا و لئن اعترف ابن عربي بوجود الشـــــــر كنقيض للخير فإنه ــ و تحت مفهوم الرحمــــة الإلهية ــ ينفيه حتى إنه يصرح بأن الوجود كله خير ، وأما ما ظهر من شر فهو عرض محض :
" الثناء بصدق الوعد لا بصدق الوعيد ، والحضــرة الإلهيـــــة تطلب الثناء
المحمود بالذات ، فيثنى عليها بصدق الوعد لا بصدق الوعيد ، بل بالتجاوز
( فلا تحسبن الله مخلف وعده رســـــــــله ) لم يقل : ( وعيــــده ) ، بل قال :
( و يتجاوز عن سيئاتهم ) " . ثم أنشــــــــــــــد :
فلم يبق إلا صادق الوعد وحـــده وما لوعيــد الحق عين تعايـن
وإن دخلوا دار الشـــــــقاء فإنهم على لذة فيها نعيـــــم مبايـــــن
نعيم جنان الخلد ؛ فالأمر واحــد و بينهما عند التجــــــلي تبــاين
يسمّى عذابا من عذوبة طعمــــه وذاك له كالقشر والقشر صاين
وإذا فجميع الخلق ــ في النهاية ــ سيفوزون بالنعيم ، حتى أولئك الذين ظلموا أنفسهم وظلموا الناس ؛ فهم سيدخلون النار لكنهم سيتمتعون بلذة من نوع آخــر :
" فمن عباد الله من تدركهم تلك الآلام في الحياة الأخرى في دار تسمى
جهنم ، ومع ذلك لا يقطع أحد من أهل العلـــم الذين كشـفوا الأمر على
ما هوعليه ، أنه لا يكون لهم في تلك الدار نعيــــم خاص بهم ، إما بفقد
ألم كانوا يجدونه فارتفع عنهم ، فيكون نعيمهم راحتهم عن وجدان ذلك
الألم " .
وعلل ابن عربي تلك الرحمة التي سيلقاها الخاطئون بأن الإرادة الإلهية ، وهي التي ندبتهم للقيام
بدور الشر والأذى ، لا يعقل أن تحاسبهم على إثم ارتكبوه أو ذنب اقترفوه ، فقال :
" وكانوا في السعي في أعمالهم على صراط الرب المســــتقيم
لأن نواصيهم كانت بيد من له هذه الصفة ، فما مشوا بنفوسهم
وإنما مشوا بحكم الجبر إلى أن وصلوا إلى عين القرب "
كما قال في موضع آخـر :
" ما من دابة إلا هو آخــــذ بناصــــــيتها ، إن ربي على صـــــــــراط
مستقيم . فكل ماش فعلى صــــراط الرب المستقيم فهم غير مغضوب
عليهم من هذا الوجه ولا ضالـون ، فكما كان الضلال عارضا فكذلك
الغضب الإلهي عارض ، والمآل إلى الرحمة التي وسعت كل شـيء
وهي السابقة "
وقال في موضع آخـــر : " ولما حيرتني هذه الحقيقة أنشــدت على حكم الطريقة الخليقة :
الرب حق والعبـــــد حق يا ليت شعري من المكلّف ؟
إن قلت : عبد فذاك ميت أو قلت : رب ، أنى يكلف؟
وعلى هذا النحو يمضي ابن عربي فيزيل التناقضات القائمة في الوجود بين الخير والشر و الوهم
والحقيقة والخالق والعبد والطيب والخبيث والنعيم والشقاء والحي والجامد ، بحجة أن العادات والأعراف والأغراض والطباع هي التي أوحت بذلك ، كما يرى أنه لا معنى للتكليف ، فالثواب والعقاب من الأمور التي خدعت بها العامة ، وما هي إلا أوهام ، إذ الحق خير محض :
" و ما ثم إلا الاعتقادات ، فالكل مصيب ، وكل مصيب مأجور
و كل مأجور سعيد "
الانفتــــــــــاح
فإذا ضربنا صفحا عن التجاوز ، وانتقلنا إلى الخصيصة الثانية وهي الانفتاح وجدنا أن ابن عربي بقول بمبدأ المحبة ، فالمحبة عنده سر الوجود وسبب التجلي الإلهي :
" فلولا هذه المحبة ما ظهر العالم في عينه ، فحركته من العدم
إلى الوجود حركة حب الموجــد " .
وإذا فابن عربي يرى أن الحركة في الكون ما هي إلا حركة حبية ويستأنس بقوله (ص) عن ربه : " كنت كنزا لم أعرف فأحببت أن أعرف " .
وإذا كان الحب محرك الوجود وسر الحياة فلتكن حياتنا حبا و عطفا وحنانا ، أو بمعنى عصري لتكن حياتنا انفتاحا على الدنيا كلها وعلى الناس جميعهم على اختلاف دياناتهم وعقائدهم ، وليكن الحب دينا لنا نمارسه ونحياه ، فلا حقد ولا كراهية ولا تعصب ، بل تسامح وغفران :
لقد صار قلبي قابلا كل صورة فمرعى لغزلان ودين لرهبــان
وبيت لأوثان وكعبـــــة طائف وألواح توراة و مصحف قرآن
أدين بدين الحــب أنى توجهت ركائبه ، فالحب ديني وإيماني
و مما يدل على انفتاح ابن عربي وشمول رؤيته أنه اتفق في آرائه مع الكثير من الفلسفات
و العقائد ، وربما كان قد اقتبس منها لكنه صهرها وصاغها صـــــياغة رائعة تشهد له بالعبقرية ، فهو يلتقي بفكرة الفيدا عند الهنود التي تقول: إن المعرفة الحقيقية تأتي من طريق الإشراق ، وإن الهدف من الحياة إنما هو الاتحاد ببراهمن .
كما يلتقي بمبدأ الطاو في فلسفة كونفوشيوس الذي يقول : إن الله يتجلى للعالـــــم ، وإن على الإنسان أن يزكي نفسه ويطهرها كي تكون صالحة لتلقي الإشراق .
و ابن عربي يلتقي أيضا بالأفلاطونية الحديثة و لا سيما بفكرة أفلوطين التي تقول : إن العالم
قد فاض ، وإن النفس الكلية كنور الشمس المشرق على عدة غرف ، في كل منها جزء من النور
ولكنه ليس النور كله ، وإن النفس الجزئية تستطيع أن ترجع ــ في أثناء الحياة الدنيا ــ إلى النفس الكلية للحظات معدودة كي تنعم بالسعادة .
و يلتقي أيضا مع النصرانية في فكرة الحب .
وأغرب من ذلك كله أن فلسفته تتلاقى مع كثير من أفكار الفلاســــــــفة الغربيين ، ولا سيما اسبينوزا الذي يقول بوحدة الوجود ، وهيغل الذي يقول بالديالكتيك ، وبمذهب الســـــــريالية الذي
يقول بتصافح المتناقضات وبقصور العقل عن إدراك الوحدة الكلية للكون ، وبمذهب برغســـون الذي آمن بالحدس وقدرته ــ بخلاف العقل ــ على إدراك الديمومة ، والحق أن فلســفة ابن عربي
وإن تعارضت ، مع الفكر الإسلامي الرسمي ، تستحق التأمل والإكبار لأنها تدعــــو إلى فلسفة إنسانية شــــاملة قوامها المحبة والانفتاح .
والآن دعونا نعقد مقارنة بين فكر ابن عربي والإســــــــلام لنقف على أبرز الجوانب التي جعلت بعضهم يرفض فكره .
(1) فكرة وحدة الوجود فكرة يرفضها الإسلام ، لأن القرآن الكريم ــ كما هو معروف ــ يقيم
انفصالا حادا بين الخالق والمخلوق ، ولا ســــــبيل إلى التوحيد بينهما ، فبينهما برزخ لا يبغيان ، ولئن وردت في القرآن الكريم بعض الإشــــارات التي يمكن أن تتخذ دليلا على الاتحاد ، مثل قوله عز وجل : ( ونفخنا فيه من روحنا ) فإن عيسى عليه السلام يظل في نظر الإسلام عبدا مخلوقا لله ، أما القول بألوهيته فأمر غير مقبول مطلقا عند المسلمين .
(2) فكرة المحبة فكرة خصبة وجيدة ، والإسلام لا يعارضها بل يؤيدها لأنه دين سلام ، على
أن الانفتاح على الديانات شيء والذوبان فيها شيء آخــر .
(3 ) فكرة الإشراق فكرة مرفوضة تماما عند المســـــــــلمين ، ولكن يمكن قبولها جزئيا على
أساس أن الله قد يلهم بعض البشـــــر أو يكشـــف عن بصائرهم ، أما الذهاب إلى ما هو
أبعد من ذلك فأمر مرفوض .
(4) فكرة الحتمية فكرة لها بعض الجذور في الإسلام ، بيد أنها تتعارض تعارضا شديدا مع
مع فكرة التكليف والحساب والثواب والعقاب وهي أمور ألح عليها الإسلام .
( 5) فكرة الاعتماد على القلب كمصدر للمعرفة فكرة إيجابية يؤيدها الإسلام ويدعــــو إليها
إلا أنه ــ في الوقت نفسه ــ يلح على العقل كمصدر أساسي من مصادر المعرفة ، ذلك
أن العقل يدعم الإيمان ويقويه .
(6 ) فكرة إلغاء التعارض بين الخير والشر أو الحق والباطل .. فكرة مخيفة عند المسلمين
لأنها تفتح المجال للفساد والانحلال والتواكل والتخاذل لذلك يســـــــــتحيل قبولها ، إذ إن
قبولها يتعارض مع التكليف والثواب والعقاب ..
(7) فكرة أن الآثمين والمذنبين سيدخلون الجنة فكرة مرفوضة ، وإن كان لها وجود جزئي
في الإسلام ( فالمسلم الآثم سيدخل الجنة بعد أن يعذب قليلا)
وخلاصة القول أن ابن عربي أراد أن يفتح باب النبوة من جديد بعد أن أغلقه الإسلام وعجز عن الاقتناع بفكرة الخلق من العدم فنادى بفكرة وحدة الوجود وبألوهية الإنسان ، ويشـــهد على ذلك أنه روى عن نفسه أحلاما ، وزعم أن له مكاشفات مع الله والرسول ، و كتب بطريقــــة رمزية تشبه ما في الكتب الدينية ، وعندما خشي أن ينادي بالنبوة ادعى الولاية ، فزعم أنه قطب زمانه والزمان التالي أيضا .
التسميات: ابن عربي