عبد الرحمن دركزللي

صورتي
الاسم:
الموقع: Al Ain, Abu Dhabi, United Arab Emirates

الاثنين، أكتوبر 30، 2006

الزوايا الحادة في فكـر ابن عربي

الزوايا الحادة في فكـر ابن عربي

د. عبد الرحمن دركزللي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ما عرف تاريخ الفكر الإســـــــلامي ـ بعد المعري ـ رجلا احتدم حوله الجدل وثار حوله الخلاف كابن عربي ، فقد انقسم الناس حوله حتى بلغوا حد التناقض ، فبعضهم أكبره وأجله ورفعه إلى عليين ، وبعضهم هوى به إلى الحضيض ، يقول ابن العماد :
" وقد تفرق الناس في شأنه شيعا ، وسلكوا في أمره طرائق قددا
فذهبت طائفة إلى أنه زنديق لا صدّيق ، وقال قوم : إنه واسطة
عقد الأولياء ورئيس الأصفياء "

و مما لا ريب فيه أن هذا الخلاف الذي نشب بين الناس راجع إلى أن فكره اشـــــــتمل على جوانب إيجابية وجوانب ســـــــلبية ، لذلك أقبل بعضـهم عليه ، وأعرض بعضهم عنه ، وكل منهم يحكم عليه وفقا لعقيدته وظروفه ومقدار ثقافته وسعة أفقه وزاوية نظره .

أما نحن ، وبعد مرور ثمانـــيـــة قرون ، فلنا أيضا وجهة نظر نبديها ونقولها ، ولو أنك طالبتني بإبداء الرأي لقلت لك بصــــــــراحة : إن في فكر ابن عربي خصيصتين تصعدان به إلى الأفق الإنساني الرحب ، وهما : التجاوز و الانفتاح ، وســــــــأفصّل القول فيهما ، ثم أنقلب لأبيّن موقفي العام من فكره .

التجــــــــــاوز
يحاول ابن عربي، انطــــلاقا من نظريته في وحدة الوجــــــــــــود ، أن يقـــــول : إن ما نجده في الطبيعة من تناقض ، إنما هو وهم لا أســـــــاس له ، بل خداع بصـــري ناجم عن بلادة حواسـنا وقصـور عقولنا ، وإن ما نجده في العالم من كثرة وتعدد ما هو إلا زيغ ، ذلك أن عقولنا محدودة ، عاجزة عن إدراك الوحدة الكلية للأشياء ، وعن رؤية المجموع العام رؤية كلية شاملة ، ولو أن الإنســـان تحرر من قيوده وأغلالــه لأدرك أن العالم ليس ســـــــوى مظاهر متنوعة أو تجليــــات متعددة للذات الإلهية وأنه ليس في الوجود كله شيء إلا الله ، وإذا فالوجود ــ في نهاية الأمر ــ واحد ، و وجود المخلوقــــات هو عين الخالق ، وأما ما يظهر للرائي من اختلاف بينهما فهو ناجم عن الحس الخادع والعقل القاصر عن إدراك الحقيقة الواحدة ، يقول ابن عربي :
" سبحان من خلق الأشياء وهو عينهـــــــــا "
وينبني على هذا القول أن الفرق بين الخالق والمخلوق غير موجود ، وهذا الكشف هو الذي حمل الحلاج أيضا على القول : " أنا الحــق " و " ليس في الجبة إلا اللـــه " ، وهو ما دفع الجنيد إلى القول : " سبحاني " ، وقد صرّح ابن عربي بهذه الفكرة في غير موضع ، فقال :
فأنت عبـــد وأنت رب لمن له فيــــــه أنت عبـد
وأنت رب وأنت عبــد لمن له في الخطاب عهد




ثم إنه عقّب على ذلك ، فقال : " رضي الله عن عبيــــــــــده ؛ فهم مرضيون ، و رضـوا عنه فهو مرضيّ ، فتقابلت الحضرتان " وفي الفتوحات المكية قال: " فمن ســــــــعى إلى هذه الأنوارحتى وصل إلى ما يكشفه طريقها من الأسرار فقد عرف المرتبة التي لها وجـد ، وصحّ له المقـام الإليّ
و له ســـجد ، فهو الربّ والمربوب " وفســّر ذلك التعارض الظاهر للحس قائلا :
" الشيء الواحــد يتنوّع في عيون الناظريـن ، هكذا هو التجلي الإلهي
فإن شئت قلت : إن الله تجلى [ في ] مثل هذا الأمر ، وإن شئت قلت:
إن العالم ــ في النظر إليه وفيه ــ مثــل الحق في التجلي ، فيتنوّع في
عين الناظر بحسب مزاج الناظـر ، أو يتنوّع مزاج الناظـــــر لتنوّع
التجلّي ، وكل هذا سائغ في الحقائق "
و لو حاولنا أن نوضح مقصد ابن عربي لقلنا : إن البشر ينظرون من زاوية غير تلك التي ينظر منها الحق ، ولو اطلعوا على الحقيقة لرأوا الأشياء رؤية مختلفة أو مناقضة ، ومن الأمثلة التي ساقها لإيضاح فكرته مثال سيدنا إبراهيم عليه السلام :
" فنعيم أهل النار ــ بعد استيفاء الحقوق ــ نعيم خليل الله حين ألقي في
النار ، فإنه ــ عليه الســـــــلام ــ تعذب برؤيتها وبما تعوّد في علمه
وتقرر من أنها صورة تؤلم من جاورها من الحيوان ، وما علم مراد
الله فيها ومنها في حقه ، فبعد وجود هذه الآلام وجد بردا وسـلاما مع
شهود الصورة اللونية في حقه وهي نار في عيون الناس ؛ فالشـــيء
الواحد يتنوع في عيون الناظرين ".
ويضرب لنا مثلا آخـر من عالم الموت والحياة ، فيقول :
" و لو أن الميت والمقتول ــ أي ميت كان أو أي مقتول كان ــإذا مات
لا يرجع إلى الله لم يقض الله بموت أحد و لا شــرع قتله ، فالكل في
قبضته؛ فلا فقدان في حقه . فشــــرع القتل ، وحكم بالموت لعلمه أن
عبده لا يفوتـه ؛ فهو راجع إليه " .
يريد أن يقول : إن قتله ــ وإن كان في الظاهر ــ موتا إنما هو حياة في الحقيقة ؛ لأنه يرجــع إلى
الأصل الذي صدر عنه وانبعث منه ، وهذا شبيه بقولنا : " رحمه الله " ، فالموت الذي ــ هو في
الظاهر ــ شـــــــر إنما هو رحمة وحياة ، ولكن الناس لا يعلمون . وهذا أيضا يشــــبه قولنا : إن الشهادة حياة ؛ لأن الشهداء ــ كما هو معلوم ــ يحيون في ذاكـــــرة الناس ؛ فهم أحياء وإن فنيت أجسادهم كما أنهم أحياء أيضا عند ربهم يرزقون .

و يتمادى ابن عربي في إزالة الفوارق بين المتناقضات ، حتى إنه يرى أن الخير والشر
متساويان ، وأن الحق والباطل متكافئان ، كما أن موســـــى وفرعون متكاملان ؛ إذ إن كلا منهما تجل للذات الإلهية ، كما أن كلا منهما يعبر عن الإرادة الإلهية و يؤدي دورا محددا على مســـرح الوجود ،فلولا الجاهلون ما كان للمعلمين من عمل ، و لولا المجرمــــون ما كان لأهل القانون من مشغلة ، ولولا المرضى لهلك الأطبــاء جوعا ، ولولا ظلم فرعون وطغيانه ما كان لسعي موسى من معنى ، بل ما كان لنبوته من مسوغ .
وإذا فالوجـود بأسره يجري وفقا لإرادة إلهيـــة لا نعلم من أســـــــــــــرارها إلا جانبا فقط ، ولكن الراسخين في العلم ممن كشف الله عنهم الغطاء، وحســــر لهم الحجب ، يستطيعون فهمهـا و لئن اعترف ابن عربي بوجود الشـــــــر كنقيض للخير فإنه ــ و تحت مفهوم الرحمــــة الإلهية ــ ينفيه حتى إنه يصرح بأن الوجود كله خير ، وأما ما ظهر من شر فهو عرض محض :
" الثناء بصدق الوعد لا بصدق الوعيد ، والحضــرة الإلهيـــــة تطلب الثناء
المحمود بالذات ، فيثنى عليها بصدق الوعد لا بصدق الوعيد ، بل بالتجاوز
( فلا تحسبن الله مخلف وعده رســـــــــله ) لم يقل : ( وعيــــده ) ، بل قال :
( و يتجاوز عن سيئاتهم ) " . ثم أنشــــــــــــــد :
فلم يبق إلا صادق الوعد وحـــده وما لوعيــد الحق عين تعايـن
وإن دخلوا دار الشـــــــقاء فإنهم على لذة فيها نعيـــــم مبايـــــن
نعيم جنان الخلد ؛ فالأمر واحــد و بينهما عند التجــــــلي تبــاين
يسمّى عذابا من عذوبة طعمــــه وذاك له كالقشر والقشر صاين
وإذا فجميع الخلق ــ في النهاية ــ سيفوزون بالنعيم ، حتى أولئك الذين ظلموا أنفسهم وظلموا الناس ؛ فهم سيدخلون النار لكنهم سيتمتعون بلذة من نوع آخــر :
" فمن عباد الله من تدركهم تلك الآلام في الحياة الأخرى في دار تسمى
جهنم ، ومع ذلك لا يقطع أحد من أهل العلـــم الذين كشـفوا الأمر على
ما هوعليه ، أنه لا يكون لهم في تلك الدار نعيــــم خاص بهم ، إما بفقد
ألم كانوا يجدونه فارتفع عنهم ، فيكون نعيمهم راحتهم عن وجدان ذلك
الألم " .
وعلل ابن عربي تلك الرحمة التي سيلقاها الخاطئون بأن الإرادة الإلهية ، وهي التي ندبتهم للقيام
بدور الشر والأذى ، لا يعقل أن تحاسبهم على إثم ارتكبوه أو ذنب اقترفوه ، فقال :
" وكانوا في السعي في أعمالهم على صراط الرب المســــتقيم
لأن نواصيهم كانت بيد من له هذه الصفة ، فما مشوا بنفوسهم
وإنما مشوا بحكم الجبر إلى أن وصلوا إلى عين القرب "
كما قال في موضع آخـر :
" ما من دابة إلا هو آخــــذ بناصــــــيتها ، إن ربي على صـــــــــراط
مستقيم . فكل ماش فعلى صــــراط الرب المستقيم فهم غير مغضوب
عليهم من هذا الوجه ولا ضالـون ، فكما كان الضلال عارضا فكذلك
الغضب الإلهي عارض ، والمآل إلى الرحمة التي وسعت كل شـيء
وهي السابقة "
وقال في موضع آخـــر : " ولما حيرتني هذه الحقيقة أنشــدت على حكم الطريقة الخليقة :
الرب حق والعبـــــد حق يا ليت شعري من المكلّف ؟
إن قلت : عبد فذاك ميت أو قلت : رب ، أنى يكلف؟
وعلى هذا النحو يمضي ابن عربي فيزيل التناقضات القائمة في الوجود بين الخير والشر و الوهم
والحقيقة والخالق والعبد والطيب والخبيث والنعيم والشقاء والحي والجامد ، بحجة أن العادات والأعراف والأغراض والطباع هي التي أوحت بذلك ، كما يرى أنه لا معنى للتكليف ، فالثواب والعقاب من الأمور التي خدعت بها العامة ، وما هي إلا أوهام ، إذ الحق خير محض :
" و ما ثم إلا الاعتقادات ، فالكل مصيب ، وكل مصيب مأجور
و كل مأجور سعيد "

الانفتــــــــــاح

فإذا ضربنا صفحا عن التجاوز ، وانتقلنا إلى الخصيصة الثانية وهي الانفتاح وجدنا أن ابن عربي بقول بمبدأ المحبة ، فالمحبة عنده سر الوجود وسبب التجلي الإلهي :
" فلولا هذه المحبة ما ظهر العالم في عينه ، فحركته من العدم
إلى الوجود حركة حب الموجــد " .
وإذا فابن عربي يرى أن الحركة في الكون ما هي إلا حركة حبية ويستأنس بقوله (ص) عن ربه : " كنت كنزا لم أعرف فأحببت أن أعرف " .
وإذا كان الحب محرك الوجود وسر الحياة فلتكن حياتنا حبا و عطفا وحنانا ، أو بمعنى عصري لتكن حياتنا انفتاحا على الدنيا كلها وعلى الناس جميعهم على اختلاف دياناتهم وعقائدهم ، وليكن الحب دينا لنا نمارسه ونحياه ، فلا حقد ولا كراهية ولا تعصب ، بل تسامح وغفران :
لقد صار قلبي قابلا كل صورة فمرعى لغزلان ودين لرهبــان
وبيت لأوثان وكعبـــــة طائف وألواح توراة و مصحف قرآن
أدين بدين الحــب أنى توجهت ركائبه ، فالحب ديني وإيماني

و مما يدل على انفتاح ابن عربي وشمول رؤيته أنه اتفق في آرائه مع الكثير من الفلسفات
و العقائد ، وربما كان قد اقتبس منها لكنه صهرها وصاغها صـــــياغة رائعة تشهد له بالعبقرية ، فهو يلتقي بفكرة الفيدا عند الهنود التي تقول: إن المعرفة الحقيقية تأتي من طريق الإشراق ، وإن الهدف من الحياة إنما هو الاتحاد ببراهمن .
كما يلتقي بمبدأ الطاو في فلسفة كونفوشيوس الذي يقول : إن الله يتجلى للعالـــــم ، وإن على الإنسان أن يزكي نفسه ويطهرها كي تكون صالحة لتلقي الإشراق .
و ابن عربي يلتقي أيضا بالأفلاطونية الحديثة و لا سيما بفكرة أفلوطين التي تقول : إن العالم
قد فاض ، وإن النفس الكلية كنور الشمس المشرق على عدة غرف ، في كل منها جزء من النور
ولكنه ليس النور كله ، وإن النفس الجزئية تستطيع أن ترجع ــ في أثناء الحياة الدنيا ــ إلى النفس الكلية للحظات معدودة كي تنعم بالسعادة .
و يلتقي أيضا مع النصرانية في فكرة الحب .

وأغرب من ذلك كله أن فلسفته تتلاقى مع كثير من أفكار الفلاســــــــفة الغربيين ، ولا سيما اسبينوزا الذي يقول بوحدة الوجود ، وهيغل الذي يقول بالديالكتيك ، وبمذهب الســـــــريالية الذي
يقول بتصافح المتناقضات وبقصور العقل عن إدراك الوحدة الكلية للكون ، وبمذهب برغســـون الذي آمن بالحدس وقدرته ــ بخلاف العقل ــ على إدراك الديمومة ، والحق أن فلســفة ابن عربي
وإن تعارضت ، مع الفكر الإسلامي الرسمي ، تستحق التأمل والإكبار لأنها تدعــــو إلى فلسفة إنسانية شــــاملة قوامها المحبة والانفتاح .

والآن دعونا نعقد مقارنة بين فكر ابن عربي والإســــــــلام لنقف على أبرز الجوانب التي جعلت بعضهم يرفض فكره .

(1) فكرة وحدة الوجود فكرة يرفضها الإسلام ، لأن القرآن الكريم ــ كما هو معروف ــ يقيم
انفصالا حادا بين الخالق والمخلوق ، ولا ســــــبيل إلى التوحيد بينهما ، فبينهما برزخ لا يبغيان ، ولئن وردت في القرآن الكريم بعض الإشــــارات التي يمكن أن تتخذ دليلا على الاتحاد ، مثل قوله عز وجل : ( ونفخنا فيه من روحنا ) فإن عيسى عليه السلام يظل في نظر الإسلام عبدا مخلوقا لله ، أما القول بألوهيته فأمر غير مقبول مطلقا عند المسلمين .
(2) فكرة المحبة فكرة خصبة وجيدة ، والإسلام لا يعارضها بل يؤيدها لأنه دين سلام ، على
أن الانفتاح على الديانات شيء والذوبان فيها شيء آخــر .
(3 ) فكرة الإشراق فكرة مرفوضة تماما عند المســـــــــلمين ، ولكن يمكن قبولها جزئيا على
أساس أن الله قد يلهم بعض البشـــــر أو يكشـــف عن بصائرهم ، أما الذهاب إلى ما هو
أبعد من ذلك فأمر مرفوض .
(4) فكرة الحتمية فكرة لها بعض الجذور في الإسلام ، بيد أنها تتعارض تعارضا شديدا مع
مع فكرة التكليف والحساب والثواب والعقاب وهي أمور ألح عليها الإسلام .
( 5) فكرة الاعتماد على القلب كمصدر للمعرفة فكرة إيجابية يؤيدها الإسلام ويدعــــو إليها
إلا أنه ــ في الوقت نفسه ــ يلح على العقل كمصدر أساسي من مصادر المعرفة ، ذلك
أن العقل يدعم الإيمان ويقويه .

(6 ) فكرة إلغاء التعارض بين الخير والشر أو الحق والباطل .. فكرة مخيفة عند المسلمين
لأنها تفتح المجال للفساد والانحلال والتواكل والتخاذل لذلك يســـــــــتحيل قبولها ، إذ إن
قبولها يتعارض مع التكليف والثواب والعقاب ..

(7) فكرة أن الآثمين والمذنبين سيدخلون الجنة فكرة مرفوضة ، وإن كان لها وجود جزئي
في الإسلام ( فالمسلم الآثم سيدخل الجنة بعد أن يعذب قليلا)



وخلاصة القول أن ابن عربي أراد أن يفتح باب النبوة من جديد بعد أن أغلقه الإسلام وعجز عن الاقتناع بفكرة الخلق من العدم فنادى بفكرة وحدة الوجود وبألوهية الإنسان ، ويشـــهد على ذلك أنه روى عن نفسه أحلاما ، وزعم أن له مكاشفات مع الله والرسول ، و كتب بطريقــــة رمزية تشبه ما في الكتب الدينية ، وعندما خشي أن ينادي بالنبوة ادعى الولاية ، فزعم أنه قطب زمانه والزمان التالي أيضا .





التسميات:

السبت، أكتوبر 28، 2006

حياة ابن عربي و فلسفته

حياة ابن عربي و فلسفته

د . عبد الرحمن دركزللي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ولد الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي في " مرسية " بالأندلس سنة 560 هـ ، و ما إن بلغ الثامنة من عمره حتى قصد : إشبيلية " لدراسة الفقه و الحديث الشريف و علوم القرآن ، فأقام بها قرابة ثلاثين ســــــــنة ينهل من مناهل الثقافة و العلم ، ثم إنه عقد العزم على مغادرة الأندلس و النزوح عنها إلى المشــرق ، و كان حينئذ في الثامنة و الثلاثـين فضرب في الآفاق , و طوّف في عدد من الأقطار والأصقاع ( زار مصر و مكة المكرمة و بغداد وحلب و الموصـل و آسية الصغرى ) و كانت شهرته تسبقه إلى كل مكان يحل فيه , كما كان ذوو اليسار يُجرون عليه راتبا كبيرا , و لكنه كان ينفق معظمه في وجوه البر و الخير ( يروى أن أحد الأمراء و هبه بيتا , فما كان منه إلا أن أعطاه لأحد الســــائلين ) , و خلال زيارته لمصر لقي ابن عربي عنتا شديدا , إذ اتهمه أهلها بالزندقة و حاولوا اغتياله , و في مكة المكرمة أحب ابن عربي ابنة الشيخ مكين الدين الأصفهاني نزيل مكة فأعجب بجمالها و مبلغ ذكائها و سعة اطلاعها , لذلك نظم فيها مجموعة من القصائد الغزلية دعاها " ترجمان الأشواق ".

و بعد أمد من الترحال قرر الإقامة بدمشق , فألقى فيها عصا التسيار , و لبث فيها بقية عمره حتى وافته المنية سنة 638 هـ ، فدفن بسفح جبل قاسيون .

عاش ابن عربي حياة حافلة بالتنقل و الأسفار , عامرة بمجالس العلم , غنية بالتجارب , و كان غزير النتاج ، جــــم التآليف , كتب ــ كما قال في إحدى رسائله ــ مئتين وتسعة وثمانين كتابا ورسالة ، و وصفه بروكلمان بأنه " من أخصب المؤلفين عقلا و أوسعهم خيالا " و ذكر أن له نحوا من مئة و خمسين مؤلفا ما تزال باقية بين مخطوط و مطـــبوع . على أنه لم يشغل نفسه بالتأليف وحده , بل شغل شطرا منها بما يشغل الصوفيةُ أنفسهم به عادة من ضروب العبادة و صــــنوف المجاهدة و ألوان المراقبة والمحاسبة .

و أشهر مؤلفاته اثنان : " الفتوحات المكية " و " فصـــوص الحكم " أما الفتوحــــات فموسوعة شاملة في عقـــائد الصوفية , جمع فيه شتات علومهم و مصطلحاتهم في خمسمئة و ستين بابا , وقدم لنا , في الباب التاسع والخمـسين بعد الخمســمئة من الكتاب , خلاصة وافية عنه , ولما طلب ابن عربي من معاصره ابن الفارض أن يكتب شرحا على تائــيتــه . أجابه ابن الفارض بأنه لا يعرف لها شرحا أفضل من كتاب الفتوحات نفسه , أما تسميته بالفتوحات الملكية فلأنه مما فتح الله به عليه في أثناء زيارته لمكة المكرمة .
" كنت نـويت الحــــــج والعمرة , فلــما وصـــلــت أم الـــقرى
أقــــام الله سبحـــانه وتعالــــى في خاطـري أن أعرّف الولي
بفـــــنون من المــــــعارف... وكان الأغلـــب منها ما فتـــح
الله – سبحانه وتعالى- عليّ به عند طوافي في بيته المكرم "
ووصف لنا كيف ألف الفتوحات , فقال :
" جميـــــع ما كتبته وأكتبه في هذا الكتــــــاب إنما هو من
إمـــــلاء إلهي وإلقـــــاء رباني , أو نفـث روحانـــي في
روح كياني ".

أما كتابه الأخر " فصوص الحكم " فيمثل مذهبه في وحدة الوجود , وهو مذهب ظل يضطرب في نفسه نحوا من أربعين سنة وهو لا يجرؤ على الجهر به في جملته ، ولا يقوى على إخراجه في صورة كاملة , ويعد كتــــاب الفتوحــات تمهيدا للفصوص وتوطئة له، يقول نيكلسون عن" فصوص الحكم":
" ولا تقل الفصوص عنها ( أي عن الفتـــوحات المكية ) من حيث
عظم الأهمية , وهي مـــؤلف صغير من سبعة وعشرين فصـــا
أطلق على كل واحد منها اسم نبي , وقد غدت موضوع شروح
عدة في العربية والتركية والفارسية"



ومما هو جدير بالذكر والتنويه أن ابن عربي لم يكن يكتب بدافع التأليف والتصنيف، وإنما كان يكتب وهو رازح تحت وطأة قوة خارقة كانت تلح عليه وتحمله على ذلك حملا ، وقد وصف لنا هذا بقوله :
" إنه كان يرد علي من الحــق موارد تكاد تـحرقنــي
فكنت أتشاغل عنها بتقييد ما يمكن منها , فخرجت
مخرج التأليف لا من حيث القصد".

****

كان ابن عربي - في الحق – ذا شخصية متعددة الجوانب والمواهب , فهو متصوف وفيلسوف وشاعر , وكان ذا مسـلكين في الحياة , فهو رصين تقي أمام الناس ، مرح متساهل أمام أنداده وأصحابه . وكان – كما قال المقّري- " ظاهري المذهب في العبادات , باطني النظر في الاعتقادات " ومع أنه كان ظاهريا فقد نفى أن يكون تابعا لابن حزم أو سواه:

نســـــــــــــبوني إلى ابن حزم وإني لست ممن يقول "قال ابنُ حزم"
لا , ولا غيـــــره , فإن مقــــــالي : " قال نصُ الكتاب" ... ذلك علمي
أو " يقول الرسولُ" أو " أجمع الخلــــــــــــــقُ على ما أقـول " ذلك حكمي

وهو – مع تمسكه بفرائض الإسلام وعقائده – يتخذ الكشـــف الصـــوفي أو " النور الباطني " رائدا له ومصدرا أوحــد في المعرفة.


وقد اختلف الناس في عقيدته , وفي الحكم عليه أشد الاخــتلاف , فبعضهم رفعه إلى علّـــين , وبعضـــهم وضعه مــع الزنادقة والملحدين , يقول ابن العماد:
" وقد تفرق الناس في شأنه شــيعا , وسلكوا في أمــــــره
طرائق قددا , فذهبت طائفة إلى أنه زنديق لا صـــــديق
وقال قوم : أنه واسطة عقد الأوليــــاء ورئيس الأصفياء
وصار آخرون إلى اعتقاد ولايته وتحريم النظر في كتبه"

وكان الفيروزأبادي صاحب " القاموس " من أشد المعجبين به , حتى إنه طرز شرحه على البخاري بكثير من أقواله , كما كان جلال الدين السيوطي يجله ويوقره، حتى إنه صنف في الدفاع عنه كتابا , سماه :" تنبيه الغبي في تبرئة ابن عربـــي" أما عبد الوهاب الشعراني فهو اشد المنتصرين له وأكثر المنصفين, إذ ألف كتابا عنوانه :" اليواقيت والجواهر في بيـــــان عقائد الأكابر", كما ألف كتابا أخر دعاه :" تنبيه الأغبياء على قطرة من بحر علوم الأولياء " وفيهما دفاع شديد عن ابــن عربي وغيره من المتصوفة، وبلغ به الأمر أن لخص كتاب الفتوحات الملكية في كتابه الموسوم بـ " الكبريـــــت الأحمر في بيان علوم الشيخ الأكبر". ومن الأمور الواضحة أن الناس في كل مكان تعلقوا بابن عربي , وتهافتوا على مؤلفاته , يشهد على ذلك كثرة الألقاب التي خلـــعوها عليه , فهو " الشيخ الأكبر" و " الكبريــت الأحمر" و" ابن أفلاطـــون " و"البحر الزاخر" و " سلطان العارفين" ... وعندما ترجم له صفي الدين بن أبي المنصور قال عنه :
" هو الشــــــــيخ الإمام المحقق , رأس أجلاء العارفين والمقربين
صاحب الإشــــــارات الملكوتية , والنفحات القدسية , والأنفاس
الروحانية , والفتح المونــق , والكشف المشرق , والبصـــــائر
الخارقة , والســــرائر الصادقة , والمعارف الباهرة , والحقائق
الزاهرة، له المحل الأرفع من مراتب القرب في منـــازل الأنس
والمورد العذب في مناهل الوصل , والطــول الأعلى في معارج
الدنو، والقدم الراسخة في التمكين من أحوال النهاية ، والبـاع
الطويل في أحكام الولاية" .





وفلسفة ابن عربي تقو م أساسا على مبدأ " وحدة الوجود " Pantheism , ومفادها أن العالم بجميع مظاهره هو الله , وأن ليس في الوجود سواه , وبناء على هذا فالحقيقة عند ابن عربي واحدة , مظهرها العالم , وجوهرهـــا الله , لذلك رأيناه في الفتوحات يقول :" سبحان من خلق الأشياء وهو عينها " وسمعناه في الفصوص يقول:
يا خالق الأشياء في نفسه أنت لما تخلقه جامـــــــــــع
تخلق ما لا ينتهي كــــونُه فيك , فأنت الضيق الواسع

وقد بث مذهبه هذا في تضاعيف كتبه ونثرها في مواضع مختلفة من تصانيفه , وكان تشتيتها عن قصد , فهو يخشى إذا عرضها عرضا كاملا واضحا أن يثير عليه حفيظة الجاهلين وغضب العامة . قال:
" جئت بها مبددة في أبواب هذا الكتاب ، مستوفاة مبينة
لكنها – كما ذكرنا- متفرقة , فمن رزقــــه الله الفهم فيها
يعرف أمرها , ويميزها عن غيـــرها , فإنها العلم الحق
والقول الصدق"

ويترتب على قوله بوحدة الوجود أن الله هو الأصل وأن العالم صدر عنه وفاض منه . ذلك أنه أراد بإيجــاد العالم أن يرى نفسه ويظهر جماله , فخلقه ليكون بمنزلة المرأة، تتجلى فيه رحمته وقدرته وعدالته ، كما جاء في الحديـــث القدسي الشريف : "كنت كنزا مخفيا , فأحببت أن أُعرف, فخلقت الخلق , فبه عرفوني" وقد يفهم بعضهم من هذا أن ابــــن عربي يقول بالإثنينية , وليس الأمر كذلك , لأن الحقيقة عنده واحدة , هي الله , وليس المراد بالخلق عنده أن الله أوجد العالم من عدم, وإنما هو الفيض الإلهي , فالله بمنزلة " الواحد" من سائر الأعداد , يتكرر فيها على صور متعددة وأشـــكال متــكثّرة وقد صرح بهذا قائلا:
" وقد ثبت عند المحققين أنه ما في الوجود إلا الله
ونحن , وإن كنا موجودين فإنما وجودنا به , ومن
كان وجوده بغيره فهو بحكم العدم"

والخلاصة أن الحقيقة الوجودية واحدة, لا ثنائــية فيها ولا تعدد , إذا نظرت إليها من وجه قلت : هي الحـــــق , وإذا نظرت إليها من وجه آخر قلت : هي الخلق . وأما ما يلوح لك في الوجود من تناقض وتعدد وتعارض واختلاف فإنـــما هو وهم خادع , وضلال ناشئ عن بلادة الحس وقصور العقل وارتباط الإنسان بالمصالح والغرائز والظروف , ولو أنه تحــرر من هذه القيود وتفلت من هذه الأشراك لأدرك وحدانية الوجود ، ولوقف على الأسرار ، ولا يكون ذلك بالنظر العقلي وإنما بالكشف الصوفي . وليست وحدة الوجود عند ابن عربي وحدة مادية يضحّي فيها بفكرة الألوهية . بل العكس هو الصحيح أي أن الوجود الحقيقي هو وجود الله وحده , أما الخلق فهو شبح زائل وظل عابر.

وطريق المعرفة إنما هي القلب لا العقل , أي الحدس لا المنطق , ذلك أن المعرفة نور يقذفه الله في قلب ابن آدم , لذلك مــا وقف على أسرار النفس " إلا الإلهيـون من الرســــل والصوفية , وأما أصحــــــــاب النظـــر وأرباب الفكرالقدماء، من المتكلميـــــــن في كلامهم على النفس وماهيتها، فما منهم من عثر على حقيقتها، ولا يعطيها النظرُ الفكر أبدا , ومن طلب العلم بها ، من طريق النظر الفكري، فقد اســـتســــمن ذا ورم , ونفخ في غير ضرم"






ويحتل الحب في فلسفة ابن عربي مكانة مرموقة , فهو سر الخلق , ومغزى الوجود , ولولا حب الله لذاته , ورغبته في إبداء صفاته وتجلية كمالاته , ما أشرق في عالم العيان شيء , ولا برز إلى صفحة الوجود مخلوق , فالعالم إذا صـــادر عن حركة حبّية " ولولا هذه المحــبة ما ظهر العالـــم في عينه , فحركته من العـــدم إلى الوجـــود حركة حــب المــوجــد"
ولما كان الحب سبب الوجود كان الوجود كله مشمولا بالرحمة والغفران فلا مذنب و لا آثم إلا فائز بالعفو , والدليل علـــى ذلك أن الثناء جاء بصدق الوعد ،لا بصدق الوعيد . يقول ابن عربي :
" الثناء جاء بصدق الوعد , لا بصدق الوعيد , والحضـرة
الإلهية تطلب الثناء المحمود بالذات , فيثنى عليها بصـدق
الوعد , لا بصدق الوعيد , بل بالتجاوز :" فلا تحسبن الله
مخلف وعده رسله " ولم يقل :" وعيده" ، بل قال :"
ويتجاوز عن سيئاتهم".
وقد نظم ابن عربي هذا المعنى اللطيف , فقال :
فلم يبق إلا صادق الوعد وحـــده وما لوعيـــد الحق عين تعاين
وإن دخلوا دار الشقاء فإنـــــهم على لـــذة فيها نعيـــــــم مباين
نعيم جنــان الخلد, فالأمر واحــد وبينـــهما عند التجلي تبــــاين
يســـمى عذابا من عذوبة طعمه وذاك له كالقشر والقشر صائن

لقد سيطـــــرت فكرة الواحــد على فكـــر ابن عربي , ففسر بهـــــا كـــل ما في الوجود من صــور واعتــــــقادات ومتغيرات، وإذا فليس ثمّ إلا الحق، يتجلى في صور متعددة ، وعقائد متباينة، وديانات شــتــى ، أما العارف فيــدرك أن وراءها جميعا إلها واحدا:
عقد الخلائق في الإله عقائدا وأنا اعتقدت جميع ما عقدوه
لما بدا صورا لهم متحــــولا قالوا بما شهدوا وما جحدوه

ورأى أن الديانات على اختلافها واحدة في جوهرها , لأنها تدعو إلى الواحد الأحد :
لقد صار قلبي قابلا كل صورة فمرعى لغزلان ودير لرهبــان
وبيت لأوثان وكعبة طائــــــف وألواح تـوراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجــهت ركائبه , فالحب ديني وإيماني

والحب سببه الجمال , والجمال هو الله , والله جميل يحب الجمال , فهو يحب الناس لهم ولنفسه، ومن أحــــــــب الجمال لم يحبب سوى الله , وإنما أخرج الله العالم كله ليكون مرآته يرى نفسه فيها , وعلى المحب أن يُصم سمعه إلا عن كلام محبوبه , ويُعمي عينيه عن كل منظور ســـــوى وجه محبوبه , ويُخرس لســـــــانه عن كل كلام إلا عن ذكر محبوبـه ويرمي على خزانة خياله ، فلا يتخيل سوى صورة محبوبه , فبه يسمع وله يسمع , وبه يبصر وله يبصر , وبه يتكلم وله يتكلم .

وللحب الإلهي – عند ابن عربي- وجهان حب الخالق للحق , وحب الحق للخــلق, والحق يبــــادل الخلق حبا بحب واشتياقا باشتياق , بل إن شوقه إلى المشــتاقين أقوى من شـــــوقهم إليه, إن الله الناس يحب الخلق : لهم ولنفسه , ومما جـاء في " فصــوص الحكم " قوله تعالى:" ما ترددت في شــــيء أنا فاعله ترددي في قبض عبدي المؤمن , يكره الموت وأكره مســـــاءته , ولا بدّ له من لقائي".

وفي الختام لا بد لي من الإشارة إلى أن عظمة فلسفة ابن عربي تكمن في روح الانفتـاح , والتســامح والحب, يشهد على ذلك أنها تلتقي بالكثير من العقائد الفلسفية عند غير المسلمين, فهي تلتقي بفكرة الفيـــــــدا عند الهنود التي تقول: إن المعرفة الحقيقية تأتي من طريق الإشراق , وإن الهدف من الحياة هو الاتحاد ببراهمان ، كما تلتقي بمبدأ الطاو عند أهالي الصين الذي يقول : إن الله يتجلى في العالم . كما تلتقي بالأفلاطـــونية الحديثة خصوصا بفكرة الفيـــــض القائلة: إن العالم قد فاض ، وإن النفس الكليّــــة كنور الشمس المشـــرق على غرف عدة , في كل منها جزء منه . وإن النفـس الجزئــــــية تستطيع أن ترجع خلال حياتها ، ولو لحظات معدودة إلى النفس الكلية ؛ لتنال الســـعادة . وهي تلتقي بالنصـرانية أيضا في فكرة المحبة.

وأغرب من هذا أننا نجد أصداء لفلسفة ابن عربي عند كثير من المفكرين من أمثال ســـــــــبينوزا في فكـــــــرة وحدة الوجود , وهيغل في فكرة الجدل ( الديالكتيك ) ، وبرغســون في فكرة الحدس والديمومة , وأغرب من هذا وذاك أننا نجد بذورا من فلسفة ابن عربي لدى السريالية التي تقول : إن المتناقضات قابلة للانحلال . وإن الحقيقة تكمـــن في العـــقل الباطن مستودع الأسرار الكونية... وإذا ففلسفة ابن عربي تؤهله بحق أن يكون فيلسوفا كبيرا ومفكرا عالمــيا من الطـراز الأول .















المصـــــــادر والمراجــــع


1- الفتوحات المكية – ابن عربي- تحقيق د. عثمان يحيى, مراجعة د . إبراهيم مدكور ، الهيئة المصرية العامة للكتاب –
القاهرة 1972.

2- فصوص الحكم – ابن عربي- والتعليقات عليه بقلم أبو العلا عفيفي- دار إحياء الكتب العربية , مصر 1946.

3- ترجمان الأشواق – ابن عربي – دار صادر , بيروت 1961.

4- تاريخ الفكر العربي – د. عمر فروخ , دار العلم للملايين , بيروت 1966.

5- تاريخ الأدب العباسي – تأليف ر . نكلسن – ترجمة صفاء خلوصي – المكتبة الأهلية , بغداد 1967.

6- ابن الفارض سلطان العاشقين – د. محمد مصطفى حلمي – سلسلة أعلام العرب , عدد (15)
وزارة الثقافة والإرشاد القومي – مصر 1963.

7- لقاء القيم في الفكر العربي – عادل العوا – دار شمأل للطباعة والنشر , دمشق 1993.

8- المزاج الحضاري في الفكر العربي -عادل العوا- المطبعة الجديدة , دمشق 1992.

9- الطبقات الكبرى – سيدي عبد الوهاب الشعراني ج/1 (بلا مكان / تاريخ)

10 مجلة " تراث الإنسانية " وزارة الثقافة والإرشاد القومي – المؤسسة العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر –
المجلد الأول (3,2) . مقال " الفتوحات الملكية " للدكتور أبو العلا عفيفي.

11- دائرة المعارف الإسلامية , مادة "ابن [الـ] عربي " ص 343.


12- دائرة المعارف البريطانية.















الحجّاج بن يوسف الثقفي





الحجّاج بن يوسف الثقفي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
د. عبد الرحمن دركزللي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وُلد الحجّاج بن يوسف بمدينة الطائف شرقي مكة سنة 42 هـ ، ونشأ في أسرة متعلمة مثقفة ( كان هو وأبوه وأخوه معلمين )
ثم إنه ترك التعليـــــــم، والتحق بالجيش الأموي، وما زال يترقى في المناصب العســــكرية حتى عهد إليه الخليفة عبد الملك بن
مروان بقيادة الجيش المكلف بمحاربة عبد الله بن الزبير في مكة، وكان ابن الزبير قد ثار على الدولة الأموية، ونادى بنفسه خليفة في الحجاز والعراق ومصر. تمكن الحجاج من الانتصار على ابن الزبير سنة 73هـ لذلك قام عبد الملك بتوليته على الحجاز واليمن، فاستطاع بنجاح خلال عامين اثنين أن يوطد الأمن فيهما، ويحمل الناس على طاعة بني أمية، فما كان من عبد الملك إلا أن ولاه على العراق أيضا مكافأة له.

استطاع الحجاج خلال عشر سنوات أن ينشر الاستقرار في العراق، فقضى على الخوارج الثائرين على بني أمية، كما قام بإصلاحات إدارية وعمرانية كثيرة ، منها:

· بناؤه مدينة واسط واتخاذها عاصمة له ( لأن الكوفة كانت شيعة لآل علي) و(لأن البصرة كانت شيعة لبني الزبير).
· مسحه للعراق ( قاسه وعين مواقعه وقيد الأملاك فيه).
· إصلاحه لشأن الزراعة (حفره للأقنية التي كانت قد ُطمرت خلال المعارك والحروب. وإقامته السدود للري،
· توحيده للمكاييل والموازين.
· تحويله للكتابة في الدواوين من الفهلوية( الفارسية القديمة ) إلى اللغة العربية.
· سكه العملة باللغة العربية.
· تنظيمه للخدمة العسكرية ( جعلها إجبارية).
· فتحه لبعض الأقاليم الواقعة في الشرق مثل بلخ وطُخارستان وفرغانة والسند ، وقد امتدت الفتوح إلى حدود الصين.
بعث يابن أخيه محمد بن القاسم الثقفي لفتح السند، كما شجع قتيبة بن مسلم على فتح الصين " أيكما سبق إليها فهو
عامل عليها )
· أمره بنقط القرآن وتجزئته( كلف بذلك الحسن البصري ويحيى بن يعمر ونصر بن عاصم الليثي ).
· دعوته الناس إلى اعتماد مصحف عثمان.
· قراءته القرآن في كل ليلة.
· قيامه ببعض الإصلاحات الاجتماعية، مثل: منع النواح على الموتى و ومنع التبول والتغوط في الأماكن العامة وحظره شرب الخمر، وقتل الكلاب الضالة.

ومن الجدير بالذكر ههنا أن الحجاج كان سياسيا محنكا وإداريا حازما، واسع المعرفة والدراية بالناس، بعيد النظر في الأمور وخطيبا مفوها، امتاز بجزالة اللفظ ومتانة التركيب ، ويمتاز أسلوبه بقصر الجمل واستخدام الموازنة، أما السجع والصنعة فقد كانا قليلين في كلامه، بخلاف الاقتباس من القرآن الكريم فإنه كثير في أقواله. قال عنه أبو عمرو بن العلاء : " ما رأيت أفصح منه ومن الحسن البصري".

توفي الحجاج عندما كانت الفتوح تتسع وتتعاظم، يقال: إنه أصيب بمرض القرحة / سرطان المعدة ( وقعت الأُكـلة في جوفه).
ولم يخلّف لأهله إلا سيفا ومصحفا وعشرة دراهم من الفضة.

اختلف الناس في أمر الحجاج اختلافا كبيرا، فابن خلدون يعده من أعظم الرجال، ويذكره في الوزراء الذين عظمت آثارهم،
وعفت على الملوك أخبارهم.

ولعل من أبرز خصاله الحزم والشدة ، ففي رمضان من سنة 75 هـ وصل الحجاج إلى العراق ، فدخل المسجد، ورقي المنبر
يروي لنا ابن عمير الليثي الخبر :

" بينا نحن في المســـــــجد الجامع بالكوفة، وأهل الكوفة يومئذ ذوو حال حســـنة
يخرج الناس منهم في العشرة والعشرين من مواليه.. إذ أتى آت فقال:هذا الحجاج قد قدم أميرا على العراق، فإذا به قد دخل المسجد مُعتمّا بعمامة قد غطى بها أكثر وجهه متقلدا سيفا، متنكبا قوسا، يؤم المنبر، فقام الناس نحوه حتى صعد المنبر، ثم مكث ساعة لا يتكلم، فقال بعض الناس لبعض: قبّح الله بني أمية ؛ إذ يستعملون مثل هذا على العراق.. ثم إن رجلا اسمه عُمير بن ضابىءالبُرجُمي قال للناس: ألا أحصبه لكم؟ فقالوا له : تريث حتى نرى ما ستتمخض عنه الأمور. فلما رأى الحجاج عيون الناس رامقة له حسر اللثام، ونهض فقال:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا متى اضع العمامة تعرفوني
يا أهل الكوفة إني لأحمل الشر بحمله، وأحذوه بنعله، وأجزيه بمثله، وإني لأرى أبصارا طامحة، وأعناقا متطاولة، ورؤوسا قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها، كأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى تترقرق.
هذا أوان الشد فاشتدي زيم قد لفها الليل بســواق حُطم
ليس براعي إبل ولا غنـــــم ولا بجزار على ظهر وضم
قد شمرت عن ساقها فشدوا وجدت الحرب بكم ؛ فجدّوا
والقوس فيهـــــــا وتر عُردّ مثلُ ذراع البكر أو أشـــــدّ
لا بد مما ليس منه بُدّ
إني والله ــ يا أهل العراق، ومعدن الشقاق والنفاق، ومساوىء الأخلاق، ما يقعقع لي بالشنان، ولا يغمز جانبي كتغماز التين. لقد فُرزت عن ذكاء، وفتّشت عن تجربة، وجريت إلى الغاية القصوى، وإن أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه، نثر كنانته بين يديه، فعجم عيدانها، فوجدني أصلبها مكسرا، فرماكم بي؛ لأنكم طالما أوضعتم في الفتن، واضطجعتم في مراقد الضلال، وسننتم سنن الغي، أما والله لألحونكم لحو العصا، ولأقرعنكم قرع المروة، ولأعصبنكم عصب السلمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل، فإنكم لكأهل قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون.. وإني ــ والله ــ لا أعد إلا وفيت، ولا أهم إلا أمضيت، ولا أخلق إلا فريت، فإياي وهذه الشفعاء، والزرافات والجماعات، وقالا وقيلا. أما والله لتستقيمنّ على طريق الحق أو لأدعنّ لكل رجل منكم شغلا في جسده. وإن أمير المؤمنين أمرني بإعطائكم أعطياتكم، وأن أوجّهكم لمحاربة عدوكم، مع المهلب ابن أبي صفرة، وإني ــ أقسم بالله ــ لا أجد رجلا تخلف بعد أخذ عطائه ثلاثة أيام إلا سفكت دمه، وأنهبت ماله، وهدمت داره"

واتفق أن تأخر عن الموعد الذي ضربه الحجاج، رجل شيخ اسمه عمير بن ضابىء البرجمي، ثم جاء بعد ثلاثة أيام يبدي عذرا من ضعفه، فأراد الحجاج أول الأمر أن يعفو عنه، ولكن الناس ذكروا له أن هذا الرجل دخل على عثمان بن عفان مقتولا، فوطىء بطنه، وعندئذ أمر الحجاج بقتله، وقال له: إن في قتك صلاح المسلمين. وأمر مناديا فنادى: ألا إن عميرة بن ضابىء أتانا بعد ثلاثة وكان قد سمع النداء، فامرنا بقتله، ألا إن الذمة قد برئت من رجل رأيناه بعد هذا البعث متخلفا.

وبعد أن استقر الحجاج في الكوفة وأرهب أهلها انتقل إلى البصرة، وتوعد أهلها، وهددهم أيضا فقال:

أيها الناس من أعياه داؤه فعندي دواؤه، ومن استطال أجله فعلي أن أعجله، ومن ثقل عليه رأسه وضعت عنه ثقله، ومن استطال ماضي عمره قصرت عليه باقيه، إن للشيطان طيفا، وللسلطان سيفا، فمن سقمت سريرته صحت عقوبته، ومن وضعه ذنبه رفعه صلبه، ومن لم تسعه العافية لم تضق عنه الهلكة.
إني أنذر ثم لا أنظر، وأحذّر ثم لا أعذر، وأتوعد ثم لا أعفو، إنما أفسدكم ترنيق ولاتكم، ومن استرخى لببه ساء أدبه، إن الحزم والعزم سلباني سوطي، وابدلاني به سيفي، فقائمه في يدي، ونجاده في عنقي، وذبابه قلادة لمن عصاني، والله لا آمر أحدكم ان يخرج من باب من أبواب المسجد ، فيخرج من الباب الذي يليه إلا ضربت عنقه"
قال ابن كثير عنه : " إن من أعظم ما نُقم على الحجاج وصح من أفعاله سـفكه الدماء، وكفى به عقوبة عند الله، وقد كان
حريصا على الجهاد، وكانت فيه سماحة في إعطاء المال لأهل القرآن ".

أما حبه لسفك الدماء فقد فسرته العامة تفسيرا خرافيا " ذكر أنه ولد ولا مخرج لهن وأنه لم يرتضع أياما حتى سقوه دم جدي أياما .. ولطخ به وجهه فارتضع، زكانت فيه شهامة وحب لسفك الدماء لأنه أول ما ارتضع ذلك الدم الذي لطخ به وجهه".

وفي كتاب" العقد الفريد لابن عبد ربه 5/48 مجموعة أقوال تنم على كراهية الناس للحجاج سنورد بعضها لتكون بمنزلة
الصورة المكملة للمشهد :

1ـ قال كثير بن هشام عن جعفر بن برقان، قال سألت ميمون بن مهران، فقلت : كيف ترى في الصلاة خلف رجل يذكر أنه
خارجي؟ فقال: إنك لا تصلي له، وإنما تصلي لله، قد كنا نصلي خلف الحجاج وهو حروري أزرقي. قال: فنظرت إليه، فقال:
أتدري ما الحروري الأزرقي؟ هو الذي إن خالفت رأيه سماك كافرا، واستحل دمك، وكان الحجاج كذلك.

2ـ قال أبو أمية عن أبي مسهر قال: حدثنا هشام بن يحيى عن أبيه، قال عمر بن عبد العزيز : " لو جاءت كل أمة بمنافقيها
وجئنا نحن بالحجاج لفضلناهم".

3ـ حلف رجل بطلاق امرأته: إن الحجاج في النار، فأتى امرأته ، فمنعته نفسها، فسأل الحسن بن أبي الحسن البصري،فقال:
" لا عليك يابن أخي؛ فإنه إن لم يكن الحجاج في النار، فما يضيرك أن تكون ــ مع امرأتك ــ على زنى؟؟ "

4ـ أبو أمية عن إسحق بن هشام عن عثمان بن عبد الرحمن الجمحي عن علي بن زيد قال: " لما مات الحجاج أتيت الحسن
فاخبرته، فخرّ ساجدا".

5ـ قال يزيد الرقاشي عند الحسن: " إني لأرجو للحجاج " قال الحسن: " إني لأرجو أن يُخلف الله رجاءك".

6ـ قال عبد الملك بن مروان للحجاج: " ليس من أحد إلا وهو يعرف عيب نفسه، فصف لي عيوبك " قال الحجاج : أعفني
يا أمير المؤمنين. قال : " لابد أن تقول. قال : أنا لجوج حسود حقود. قال: مافي إبليس شر من هذا"

7ـ قال ميمون بن مهران عن الأجلح: قلت للشعبي: يزعم الناس أن الحجاج مؤمن. قال : بالجبت والطاغوت.

8 ـ اختلف قوم في الحجاج، فقال واحد منهم: بمن ترضون؟ قالوا : بمجاهد. فأتوه، فقالوا : إنا قد اختلفنا في الحجاج. فقال:
أجئتم تسألونني عن الشيخ الكافر؟

9 ـ حدّث الأوزاعي. قال: سمعت القاسم بن محمد يقول: كان الحجاج بن يوسف ينقض عرا الإسلام عروة عروة.

10 ـ ومما كفّرت به العلماء الحجاج قوله وقد رأى الناس يطوفون بقبر رسول الله (ص) ومنبره :" إتما يطوفون بأعواد و رمة"

11ـ ولما بلغ عمر بن عبد العزيز موت الحجاج خرّ ساجدا.

12 ـ قال الأصمعي: " عُرضت السجون ــ بعد الحجاج ــ فوجدوا فيها ثلاثة وثلاثين ألفا لم يجب على واحد منهم قتل ولا صلب.
فأطلق سراحهم ، ووُ جد ــ فيمن أُطلقوا ــ أعرابي يبول في أصل مدينة واسط وهو يقول:
إذا نحن جاوزنا مدينة واسط خرينا وبلنا لا نخاف عقابا


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


· الحجاج بن يوسف ــ إبراهيم الكيلاني ــ دمشق 1940
· الحجاج بن يوسف الثقفي ــ عمر فروخ ــ بيروت 1950
· الحجاج بن يوسف ــ خلدون الكناني ــ دمشق 1946
· سيف بني مروان ــ عبد الرزاق حميدة ــ مصر 1947
· الحجاج بن يوسف حاكم العراقين ــ عمر أبو النصر ــ بيروت 1938
· جبّار بني ثقيق ــ رياض محمود رويحة ــ بيروت 1963
· الحجاج حياته وخطابته ــ صافي حسين ــ القاهرة ( بلا تاريخ).










فلسفة الخيام

بسم الله الرحمن الرحيم


فلسفة الخيام

د. عبد الرحمن دركزللي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ما أنس لا أنس ذلك اليوم يوم رجعت إلى بيتنا , وكنت غلاماً في ميعة الصبا , لأجد أبي ــ ـرحمه الله – ينصت بشغف إلى رباعيات الخيام تشدو بها أم كلثوم . وحين بلغت قوله :
لبست ثوب العيش لم أستشـر وحرت فيه بين شـتى الفكر
وسوف أنضو الثوب عني ولم أدرك لماذا جئت ؟ أين المفر؟

لم أستطع أن أكفكف سوابق عبراتي .. أحسست برعشة تسري في جسدي وقشعريرة تعتريني , وما كنت في ذلك الوقت قادراً على فهم تلك الحالة التي انتابتني لكوني صغير السن.

رجعت بعد ذلك مراراً إلى ( رباعيات الخيام ) فقرأتها بإنعام, و تفرست في معانيها وعرفت أن روعتها ناجمة عن صدق المشاعر ورهافة الأحاسيس .

وأبرز ما لاحظته في هذه القصيدة هو أن فلسفة الخيام نتاج لتجربة روحية عميقة هزت وجدان المشاعر , وثمرة لمعاناة وجودية أصيلة , جوهرها (ظاهرة الموت) ولا عجب فالموت أبرز حقائق الوجود , ولا أبالغ إذا قلت : إن كل الفلسفات والديانات والعقائد كانت تسعى إلى تخفيف صدمة الموت على الإنسان, وإلى منحه القوة على مواجهته والاستعداد للقائه . ومما لا ريب فيه أن الديانات والفلسفات قدمت للإنسان شيئاً كثيراً من العزاء , وخففت إلى حد عظيم من هول الموت ووقعه الرهيب إلا أن الإنسان كان على الدوام في ريب من أمره وفي شك مما بعده ؟ فهل هناك بعث ونشور وثوب وعقاب كما قيل أم أن الإنسان صائر إلى الفناء والاضمحلال؟!
وقبل الشروع في عرض فلسفة الخيام يجدر بي أن أورد لكم حياة الرجل وسيرته في اسطر قليلة :
- عمر الخيام شاعر فارسي مسلم , اسمه غياث الدين , وكنيته أبو الفتح.
- وهو عالم فلكي رياضي ( له مقالة في علم الجبر عظيمة القدر)
- ولد في نيسابور على الأصح , وقيل في بلخ , وقيل في أستراباد.
- ذاعت شهرته في عهد السلطان السلجوقي ملكشاه.
- وكان فضلاً عن تخصصه في علمي الفلك والرياضيات شاعراً وحكيماً وطبيباً وعالماً في الفقه واللغة والتاريخ .
- ومن أبرز مؤلفاته :( الجبر والمقابلة) ( رسالة في الكون والتكليف ) ( رسالة في الوجود).
- وكان صديقاً حميما للوزير نظام الملك لأنه ــ فيما ذكروا ــ درس معه في مدرسة نيسابور عندما كان صغيراً , وكان لهما صديق ثالث هو الحسن بن الصباح . وتروي الأخبار أنهم اتفقوا على أنه إذا ابتسم الحظ لأحدهم في قابل الأيام وجب عليه أن يعين صديقيه الآخرين . وشاءت الأقدار أن يصبح نظام الملك وزيراً , فقصده الخيام وابن الصباح , فأكرم وفادتهما وأنعم عليهما فاختص الخيام بألف ومائتي مثقال من الذهب في كل عام , وجعل ابن الصباح كبيراً للحجاب . بيد أن الثاني لم يرض بهذا المنصب, واستبد به الحسد حتى سولت له نفسه الإيقاع والغدر بمن أنعم عليه.
- كلف السلطان ملكشاه السلجوقي عمر الخيام بأعمال الرصد الفلكي , وخصص مبالغ طائلة لتحقيق هذا الغرض.
- وشهرة عمر الخيام لا تعزى إلى نبوغه في علم الفلك وإنما إلى قصيدته المشهورة بالرباعيات, وهي التي ذاع صيتها في كل مكان وطبقت شهرتها الآفاق . والناس مختلفون في عددها , فبعضهم أوصلها إلى 280 رباعية وبعضهم قصرها على خمس وسبعين فقط.، والظاهر أن كثيراً من الرباعيات ضُم إليها وأُلحق بها.
- واختلف الناس في عقيدة الخيام فبعضهم ذهب إلى أنه من الحكماء الصالحين , وبعضهم ذهب إلى أنه من الزنادقة الملحدين القائلين بالجبر .
- والظاهر أنه كان ملحداً , لكنه حين شعر أن فكره سيجر عليه نقمة الناس وغضب العامة اصطنع التقوى وعمد إلى الحج . قال عنه القفطي:
"عمر الخيام إمام خرسان وعلامة الزمان . يعلم علم يونان ويحث على طلب الواحد الديان, وقد وقف متأخرو الصوفية على شيء من ظواهر شعره نقلوها إلى طريقتهم وتحاضروا بها في مجالسهم وخلواتهم , وبواطنها حيات ـ للشريعة ـ لواسع ، ومجامع ـ للأغلال ـ جوامع.
ولما قدح أهل زمانه في دينه ،وأظهروا ما أسر من مكنونه , خشي على دمه , وأمسك من عنان لسانه وقلمه, وحج متاقاةً لا تقية , وأبدى ألواناً من السلوك غير نقية , ولما حصل ببغداد سعى إليه أهل طريقته في العلم القديم , فسد دونهم الباب سد النادم لا سد النديم , ورجع من حجه إلى بلده يروح إلى محل العبادة ويغدو , ويكتم أسراره ولا بد أن تبدو. وكان عديم القرين في علمي النجوم والحكمة , وبه يضرب المثل في هذه الأنواع , لو رُزق العصمة" .

- وفي العصور المتأخرة حظيت الرباعيات بشهرة واسعة , خصوصاً بعد أن أقدم فتزرجرالد
(Fitzgerald) شاعر الإنجليز الكبير على ترجمتها . ثم إنها ترجمت إلى كل اللغات الأوربية.

- وفي العربية لقيت الرباعيات إقبالاً شديداً , وأقدم على ترجمتها كثيرون نثراً ونظماً , نذكر منهم وديعاً البستاني ( لبنان) ومحمدا السباعي ( مصر) ومحمداً الهاشمي ( العراق) وجميل صدقي الزهاوي وأحمد الصافي النجفي وأحمد رامي.
- ويكاد الإجماع ينعقد على أن أدق ترجمة للرباعيات هي الترجمة التي قدمها أحمد الصافي النجفي. لأنه كان يجيد اللغتين العربية والفارسية؛ فترجمته أقرب إلى الأصل الفارسي. وأما أجمل نظم , وأرق صياغة فقد تحققا في ترجمة أحمد رامي. وإن كان قد ضحى بالمعنى قليلاً لمصلحة النظم.
- عاش الخيام قرابة أربع وثمانين سنة , من سنة 433 هـ حتى سنة 517 هـ وقبره بنيسابور .
- كان العصر الذي عاش فيه الخيام عصر فوضى , يجيش بالفتن , ويمور بالاضطرابات , فالصليبيون يهاجمون الشرق ويتهددون أهله . والباطنيون يدبرون المكايد لهدم الإسلام ويبثون الدُعاة لنشر الإلحاد , والأعاجم يتسلطون على شؤون الحكم , والشعوبية تمارس نشاطها على أوسع نطاق.
- ومن المؤكد أن الخيام ألمّ بكتب الفلاسفة القدماء, ودرس الإلهيات واطلع على كتاب الشفاء لابن سينا, وتنقل في عدد من الأقطار والأقاليم والعواصم , ولهذا كله أثر في رباعياته , وفي فلسفته.
- ومذهب الخيام في الحياة هو مذهب الطبيعيين الذين عرّفهم الغزالي في ( المنقذ ص 161 ) بقوله : (( هم الذين يقرون بخالق حكيم , ولكن يرون أن النفس تابعة للبدن , وأنها تنعدم بانعدامه , فهم يجحدون الآخرة وينكرون القيامة والحساب والجنة والنار لأن المعدوم لا يعود )) وقد أشار إليهم القرآن الكريم في سورة الجاثية ( الآية 23 ) بقوله : ( وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا , نموت ونحيا , وما يهلكنا إلا الدهر).
ويترتب على القول بمذهب الطبيعيين أمور منها: أن الحياة التي يحياها الإنسان على سطح الأرض هي حياته ولا حياة له بعدها. وهي حياة قصيرة سريعة يسبقها عدم ويتلوها عدم وأن الكون خالد , بخلاف الإنسان الذي يصير إلى الفناء، ولئن كان الجنس البشري خالداً فإن الفرد ـ وهنا المأساةـ زائل عارض , شأنه شأن الأعشاب التي تنمو ثم لا تلبث أن تجف فتذروها الرياح , أو الأسماك التي تعيش في أعماق المحيطات تنمو وتكاثر وتصطرع , ثم لا يلبث الموت أن يعصف بها, ونحن ـ معشر البشرـ نعيش ونفرح ونحزن ونكافح ونبني ثم لا يلبث الموت أن يعصف بآمالنا ويعصف بنا . وكم ننفعل ونتأثر ونفكر وندبر فإذا الموت يبتلع كل أولئك. فنغادر الدنيا ونرحل عن الوجود ونُمحى من صفحة الحياة لنغدو عدماً أو وهما أو مجرد ذكرى.

وأمام هذا المصير الفاجع والنهاية الرهيبة لا يجد الخيام إلا الإذعان والخضوع لمشيئة القدر . ويرى أن الحل يكمن في اغتنام تلك اللحظات السعيدة التي تتيحها لنا الحياة. أما الحزن فلا فائدة فيه ولا جدوى منه :

يا نفس قد آدك حمل الحزن يا روح مقدور فراق البـدن
اقطف أزاهير المنى قبل أن يجف من عيشك غض الفنن

وإحساس الخيام بالزمان إحساس قوي واضح , فهو يرى أن عمر الإنسان – مهما امتد وطال – قصير كالحلم , كاذب كالسراب:
كنا فصرنا قطرة في عبـاب عشنا وعدنا ذرة في التراب
جئنا إلى الأرض , ورحنا كما دب عليها النمل حينا وغاب

ويصور لنا حركة الزمان وتعاقب الأيام في سرعة خاطفة من خلال حديث جرى بين صف من دنان الخمرة:

رأيت صفاً من دنان سرى ما بينها همس حديث جرى
كأنها تســـأل أين الذي قد صاغنا أو باعنا أو شرى؟!

ومما يزيد الإنسان حزناً وغماً أن هذا القدْر الصغير الذي أتيح لنا من العيش يمضي كلمح البصر , ينفلت من بين أيدينا قبل أن نحقق فيه ما نصبو إليه , ولو قدراً تافهاً من آمالنا وطموحاتنا:
الدهر لا يعطي الذي نأمـل وفي سـبيل اليأس ما نعمل
ونحن في الدنيا على همها يسوقنا حادي الردى المعجل

ويلح الخيام على فكرة سرعة الزمان وقصر الحياة، ويرى ذلك ماثلاً بارزاً في كل شيء , فصياح الديك ما هو إلا بكاء على يوم مضى , وعويل على عمر انقضى:

أتسمع الديك أطال الصياح وقد بدا في الأفق نـور الصباح
ما صاح إلا نادباً ليلــةً ولّت من العمر السريع الرواح

وتجاه هذا الوضع الأليم, وهذا المصير الفظيع , لا يرى إلا الهرب من التفكيروالعكوف على الشراب , مخرجاً مؤقتاً من الأزمة , وحلأً مناسباً للتخفيف من العذاب:

سمعت صوتاً هاتفاً في السحر نادى من الحان غُفاة البشر
هبوا املؤوا كاس الطلى قبل أن تفعم كاس العمر كف القـدر
فكم توالى الليل بعد النـهــار وطـال بالأنجم هـذا المدار!
فامش الهوينا إن هذا الثــرى من أعين ساحرة الإحـورار

ومما لا ريب فيه أن الخيام يقول بمذهب الجبر , فالإنسان عنده مسير كالريشة في مهب الريح, لا حول له ولا طول , تتقاذفه كف الأقدار , جاء إلى الحياة بغير إرادته , وسيغادرها بغير مشيئته , وحتى حياته كتبت سلفاً وقّدرت مقدماً :
هبطت هذا العيش في الآخرين وعشت فيه عيشة الخاملين
ولا يوافيــني بمــا أبتغـي فاين مني عاصفات المنون؟!

ومفهوم الخيام عن ( الخالق) مفهوم عجيب , فهو لا ينكره أو يجحده, بل يقر بوجوده بيد أن الله – كما يلوح في رباعياته- كائن سلبي أبرز صفاته العفو والغفران.
ويلوح لي أن الخيام كان في أعماقه ملحداً جاحداً , لكنه أبقى على الله , لينفي عن نفسه تهمة الإلحاد والزندقة , وليتفادى نقمة العامة , ولعله كان متأثراً بالزرادشتية التي تقول بوجود قوتين تتحكمان بمصير الكون والبشر، هما النور والظلام , أو الخير والشر , ولكنه لا يعبر عن ذلك بصورة مباشرة , بل ينسب الخير إلى الله , وينسب الشر إلى القدر. ومثل هذا نجده عند المعري , وعند المتنبي من قبله . ولا عجب فالإسلام أيضاً يجعل الإنسان رازحاً تحت وطأة قوتين هما : الله ( رمز الخير ) وإبليس ( رمز الشر) ولكن الإسلام لا يرفع ابليس إلى مقام إله, وإن كان يترك له دوراً خطيراً هو دور الإغواء والإضلال والإفساد.

ولو أردنا أن نقف على الدور السلبي الذي نسبه الخيام إلى الخالق لقلنا: إن الخيام يقصر دوره على العفو والمغفرة ومحو الآثام . ولا يُعقل أن يكون ظالماً أو جائراً .. فكيف يحاسب الإنسان على ما اجترح من آثـام, أو اقترف من ذنوب . وهو الذي صاغه ضعيفاً أمام الشهوات؟؟ وكيف يحاسبه على شيء كتبه له وقدّره عليه؟!

كان الذي صورني يعلـم في الغيب ما أجنـي وما آثم
فكيف يجزيني على أننـي أجرمت , والجرم قضاً مبرم؟!

والله – عند الخيام- سر مغلق , ولغز مبهم، يعجز عقل الإنسان عن فهمه وعن الإحاطة به , وليس يُعقل أن يتخلى عن عليائه ويتنازل عن كبريائه فيعمد إلى حساب عبيده الضعفاء, وهم صنعة يديه:

يا من يحار الفهم في قدرتك وتطلب النفس حمـى طاعتك
أسكرني الإثـم ولكننـــي صحوت بالآمـال في رحمتك

أما القدر فهو كائن جبار مهيمن يمتاز بالقسوة والعنف ؛لأنه يسمع صيحات الأشقياء من البشر فلا يبالي ولا يكترث, يحكم عليهم بالفناء ويعصف بأمالهم وأمانيهم كأنه مارد يحرك بقبضته حجر الشطرنج حيث يشاء:

وإنما نحن رخاخ القضاء ينقلنا في اللوح أنى يشاء
وكل من يفرغ من دوره يُلقى به في مستقر الفناء
نعم خلق الله الإنسان, ولكنه أدار بعد ذلك له ظهره, تاركاً للقدر دور التكدير والتنغيص , وإلا فما معنى عيش المرء محروماً في عالم يمور باللذات ويفيض بالمباهج :

القلب قد أضناه عشق الجمــال والصدر قد ضاق بما لا يقال
يا رب.. هل يرضيك هذا الصدى والماء ينساب أمامـي زلال

وما معنى أن يمنح الإنسان إرادة وهو مغلول بإرادة القدر التي لا تُغلب ولا تكسر؟ وما فائدة إرادته وحريته واختياره إذا كان قدره قد كتب سلفاً , ومصيره قد عرف مقدماً؟!

خلقتني يا رب ماء وطيــن وصغتني ما شئت عزاً وهُـون
فما احتياجي والذي قد جرى كتبته يا رب فـوق الجبيــن؟

ثم إن الله قد زود الإنسان بالعقل , ولكن ما فائدة هذا العقل إذا كان محدوداً قاصراً عن فهم أسرار الكون ؟! إن وجود العقل لدى الإنسان ليس مزية له , كما يتوهم بعض السذج بل سبب عذابه . وليته حرم من نعمة االعقل وعاش كالأنعام يأكل ويرتع ويموت , وهو غافل عما يجري:

حار الورى ما بين كفر ودين وأمعنوا في الشك أو في اليقين
وسوف يدعوهم منادي الردى يقول : ليس الحق ما تسلكـون

إن إعمال الفكر , وإجالة النظر في أسرار الوجود وألغاز الكون لم تعد على صاحبها إلا بالعناء والشقاء. وليت العقل تمكن من إسعاد الإنسان . بل ليت الانسان عاش بلا عقل, فما قيمة عقل يفكر ويختار , وقد نسجت مصير صاحبه الأقدار ؟:

لا تشغل البال بأمر القدر واسمع حديثي يا قصير النظر
تنحّ واجلس قانعاً وادعاً وانظر إلى لعب القضا بالبشر

وما جدوى النشاط البشري . وفيم يتسابق المتسابقون , ويكدح الكادحون ويلقى الناس ما يلقون من نصب وعناء في سبيل الحصول على الأموال والقصور والجواري ؟؟ إن نشاطهم ضرب من العبث:

يا طالب الدنــيا وُقيت العثار دع أمل الربح وخوف الخسار
واشرب عتيق الخمر فهي التي تفك عن نفسك قيد الإســار

والعاقل من البشر – في رأي الخيام ـ هو الذي قنع بما قُسم له , ورضي بما كُتب له . فالعاقل من الناس من خرج من حلبة السباق, وقضى حياته في سكينة وهدوء:

الله قد قدر رزق العبـاد فلا تؤمل نيل كل المراد
ولا تُذق نفسك مرّ الأسى فإنما أعمارنا للنفــاد

ويرى الخيام أن البشر على قدر عظيم من التناقض . فيهم الزاهد الورع والخليع المتهتك . ومنهم الذكي الألمعي , ومنهم الأحمق المأفون، ولكنهم في النهاية متساوون, لأنهم جميعاً صائرون إلى التراب ،لا فضل لأحد منهم على أحد , لأن كلاً منهم لم يختر عقله , ولم يختر دوره , ولم يتخذ لنفسه موقفه. كلهم في الطريق إلى غاية أُعدت سلفاً وحُضّرت قبلاً . غاية نحن نجهلها لا يعلمها إلا الله:

معاقرو الكأس وهم سادرون وقائمو الليل وهم ساجدون
غرقى حيارى في بحار النهى والله صاح والورى غافلون

والتفكير من أشد أسباب الشقاء , فطوبى لمن حُرم نعمة العقل واستراح, وعاش مستمتعاً في جهله , غارقاً في غفلته:
لن يرجع المقـدار فيما حكـم وحمــلك الهـمّ يزيـد الألــم
ولو حزنت العمر لـن ينمحي ما خطه ـ في اللـوح ـ مر القلم

إن هذا الإغراق في التشاؤم بارز أشد البروز في رباعيات الخيام. وهو تشاؤم يقوم على أساس منطقي, ولكن مع كل هذا التشاؤم يبقى هنالك أمل خافت نلمحه دائماً عند الخيام . وهو الثقة بعفو الله , واليقين بترفع الله عن الانحدار إلى مستوى العباد, والنظر إلى هفواتهم وأخطائهم:

طبائــع الأنفس ركّبتهـا فكيف تجزي أنفسأ صغتها؟
وكيف تفني كاملاً, أو ترى نقصاً بنفس أنت صورتهـا؟

وهو على غرار أبي نواس يستخدم المنطق في إقناع البشر بأن الله سيعفو عن خطاياهم , ويتجاوز عن ذنوبهم, ويصفح عن آثامهم:

عبدك عاص أين منك الرضاء؟ وقلبه داج فأيــن الضيـاء؟
إن كانت الجنة مقصـــورة على المطيعين.. فأين العطاء؟

وإذا كان صلاح الإنسان وضــلاله بيد الله فكيف يعاقب رجلاً ضالاً:

أنا إن لم أحس السلافة يومــاً كان للهم في فؤادي دبيــب
قيل لي: تب، فقلت: إن كان ربي لم يشأ توبتي , فكيف أتوب؟؟


على أن الخيام وإن كان مغرقاً في تشاؤميته ، ممعناً في سوداويته، فإنه يحس بأوجاع إخوته البشر، فهولا يرى بداً من إسداء النصيحة, وتقديم العون , ومحاولة التخفيف من حجم اللوعة. كان يرى أن الإنسان قادر على الاستمرار في الحياة بأمور منها :

1) نبذ التفكير في قضايا الغيب , والإخلاد إلى الصمت , ذلك لأن العقل محدود قاصر عن فهم الأسرار , ثم أن الحياة قصيرة , فلا ينبغي أن نضيعها في الجدل العقيم والتفكير السقيم :
حار الورى ما بين كفر ودين وأمعنوا في الشك أو في اليقين
وسوف يدعوهم منادي الردى يقول : ليس الحق ما تسلكون

2) يرى الخيام أنه لا يجوزالنظر إلى الناس من زاوية مؤمن وكافر , فكلهم عباده, وكلهم مسير بقضائه. وقد يتساوى الورع التقي بالعاهرة الفاجرة إذا أميط عنه برقع النفاق والرياء. يقول الخيام : " يا مفتي البلد .. أنا أحسن منك عملاً , ومع كثرة سكرنا فأنا أصحى منك .. أنا أشرب دم العنقود , وأنت تشرب دم الناس .. فأيّنا شرّاب الدماء؟؟"


وقال أيضاً : "أقبل شيخ معمم على عاهرة نشوى فقال لها : أنت كل ساعة تتعلقين بخليل ؟! فقالت له : إن ما قلته صحيح . ولكن هل أنت أنت كما تظهر للناس؟؟"

3) عدم التفكير في الماضي لأنه ولى وأدبر , وعدم التفكر في المستقبل لأنه طي الغيب،وليس لنا إلا استغلال اللحظة الحاضرة، وإلا نفعل ذلك نضيعها ونخســـرها:
لا توحش النفس بخوف الظنون واغنم من الحاضر أمن اليقين
فقد تساوى في الثرى راحــل غداً وثـاو من ألوف السـنين

4) علينا ألا نتعصّب لدين , وألا ننتصر لمذهب , وألا نخوض في جدال أو نقاش ؛ فذلك لا يجدي فتيلاً . وما بالنا نبحث عن الحق أو اليقين ونحن صائرون إلى الزوال؟؟
وليس هذا العيش خلداً مُقيم فما اهتمامي : محدث أو قديم
سنترك الدنيا , فما بالنــا نضيع منها لحظات النعيـم ؟!

5) علينا ألا نتعلق بالآمال ونجري لاهثين في سبيل المال . وطوبى لمن قطع حبل الرجاء وعاش في رضى وقناعة ؛ لأن كل نعيم لا محالة زائل ، وكل شيء ما خلا الله باطل:
حتام يغري النفس برق الرجاء ويفزع الخاطر طيف الشقاء؟!

6) على الإنسان أن يستسلم لأمر القضاء ولا يحاول ـ اعتماداً على عقله الضعيف ـ فهم أسراره فذلك لن يجديه نفعاً ولن يزيده إلا عذاباً وحيرة :
الدهـر لا تجري مقاديـره بأمـرنا , فارض بما حكــم
وما غناء البحث عن سـره ما دمت تدري أنك ابن العدم؟!

7) ولا ُتصغ إلى الذين يدّعون العلم و المعرفة, و يزعمون أنهم وقفوا على الأسرار و اطلعوا على الحقائق ... فكلهم غارق في الجهل تائه في بيداء الضلال:
أهل الحجا والفضل هدي العقول قد حاولوا فهم القضاء الجليل
فحدثـــــــونا بعض أوهامهــــــم ثم احتواهـم ليـــــل نوم طويل

و إذا صح أن هنالك حسابا و ثوابا وعقابا فأنت أيها الآثم أجدر بعفو الله, و أنت أكثر من غيرك تلذذا به,؛إذ لا حلاوة لإيمان لم يأت بعد ضلال:
يا نفس ما هذا الأسى والكدر؟ قد وقع الإثم وضاع الحذر
هل ذاق حلــو العفــو إلا الذي أذنب, والله عفـا و اغتفر؟

9) ولا تلتفت إلى من ينهاك عن معاقرة الخمر و معاشرة الحسان, لأن من ينهاك عن هذه الأمور- لو
تهيأت له- لخلع فيها العذار . و كل من يدعي الزهد والاحتشام فإنما يفعل ذلك لعلة؛ فلا
تلق إليه بالا، ولا تحفل بما يقول:
خير لي العشق و كأس المدام من ادعاء الزهد والاحتشام
لو كانت النــــــار لمثلي خلـت جنات عدن من جميع الأنام

10) وثق برحمة الله التي وسعت كل شي؛ فلا يعقل أن يحاسبك الخالق على شيء كتبه لك وقدره
عليك؛ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؟؟
قالوا : لدى الحشر يكون الحساب فيغضب الله الشـــــديد العقاب
و ما انطوى الرحمـــــــن إلا على إنالـة الخير و منح الـثـــــواب




11) ولا تفكر في شؤون القدر, وأمور الغيب ؛ فإنك عاجز عن فهم أسرارها , ولو أنفقت كل سنوات
حياتك. و كم من متفكر و متأمل ضيع عمره، و أفنى زهرة أيامه, فلم يظفربشيء!
أفنيت عمري في اكتناه القضاء و كشف ما يحجبه في الخفاء
فلم أجـــد أســراره و انقضـــى عمري وأحسست دبيـب الفناء

12 ) وأفضل شيء تصنعه في هذه الحياة الزائلة هو اغتنام اللذات واقتناص المتع، وأوصيك بالخمرة لأنها أعظم نعمة وخير معين على نسيان الهموم والهرب من آلام الدنيا:
مذ أبدع الكون العليم السمبع لم يُر مثل الخمر شيء بديع
عجبت للخمار هل يشــــتري بماله أحســـــن مما يبيع ؟ !

وهي نعم الصديق لأنها تدخل على قلبك السرور وتنفي عنك الهموم:
صبّ من الإبريق صافي الدماء واشرب وهات الكأس ذات النقاء
فليس بيــــن الناس من ينطوي على الذي في صـدرها من نقــاء

13) وعليك بالحب؛ فإن الحياة ــ إذا خلت منه ــ صحراء قاحلة:
أولى بهذا القلب أن يخفقـــــا وفي ضرام الحـــب أن يحـــرقا
ما أضيع اليوم الذي مـرّ بي من غير أن أهوى وأن أعشـقا !

14) وعليك بالتواضع وخفض الجناح ؛ لأنك صائر إلى التراب، منته إلى العدم، والموت آت على
كل شيء: الكبير والصغير ،السوقة والأمير ، ولو نبشت التراب لرأيت جماجم الملوك معجونة
بأرجل الفقراء، وربما تحول ذلك التراب إلى طين تُصنع منه دنان الخمور:
رأيت خزّافـا رحـاه تـدور يجدّ في صنع دنان الخمور
كأنه يخلــط في طينهــــا جمجمة الشاه بساق الفقير

15) وليس لك في هذه الدنيا الفانية سوى تلك اللحظات العابرة من السرور؛ فحذار أن تضيعها ؛ لأنك إذا ضيعتها ولت إلى الأبد ولم تعد :
بســــــتان أيامك نامي الشجر فكيف لا تقطــُف غضّ الثمـر ؟!
اشرب ؛ فهذا اليوم ــ إن أدبرت به الليـــالي ــ لم يُعــده القــدر


تلك هي فلسفة الخيام، عرضتها بحلوها ومرها ، بصدقها وكذبها ، صحيح أنها تنطوي على سلبية وتشاؤم
ولكنها لا تخلو من توقد في العاطفة وإنسانية في المضمون.

فلسفة المعري

بسم الله الرحمن الرحيم


فلسفة المعري
د. عبد الرحمن دركزللي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هو أبو العلاء أحمد بن عبد الله المعري الشاعر والفيلسوف واللغوي, ولد بمعرة النعمان سنة 365 هـ . وعندما بلغ الرابعة من عمره أصيب بالجدري ففقد على إثره بصره.

تلقى العلم على أبيه وأعمامه, ثم اتجه إلى حلب فأخذ عن أكابر علمائها, ثم قصد بعد ذلك أنطاكية, فاطلع على ما في مكتبتها من الكتب والأسفار.

وعندما اشتد عوده وتمكن من نظم الشعر عقد العزم على الذهاب إلى بغداد, فيمم وجهه شطرها, ولكنه رجع إلى مسقط رأسه لدى سماعه بوفاة أمه. وقرر أن يحبس نفسه في بيته حتى إنه لقب برهين المحبسين, كما امتنع عن أكل اللحوم, واقتصر على الزيت والعدس، وقد علل ذلك بأنه يمتنع عن اللحم رحمة بالحيوان وإشفاقاً عليه, ومرض ذات يوم فجاءه بعض طلابه بفروج ليأكله, فنظر إليه ثم قال: " استضعفوك فوصفوك. هلا جاؤوا بشبل الأسد ! " .

وكان المعري ناقماً على الدنيا برى أنها دار نكد وشقاء لذلك امتنع عن الزواج وآثر العزلة, وتفرغ للتأليف ونظم الشعر ودراسة اللغة, وكان الطلاب يؤمونه من كل حدب وصوب, ينهلون من علمه ويأخذون عنه الأدب.

نبغ أبو العلاء في علوم اللغة والفلسفة وترك لنا عددا من المصنفات والدواوين الشعرية ومن أشهرها رسالة الغفران وسقط الزند واللزوميات وفي أعماله نظرة تشاؤمية ونقد لاذع للمجتمع. توفي سنة 449 هـ , وقد أوصى أن يكتب على قبره البيت التالي :




هذا جناه أبي علىّ وما جنيت على أحد














يمتاز المعري من سائر شعراء العربية بنظرته الشاملة ورؤيته العميقة, ولعل هذا ما حمل بعضهم على وصفه بالفيلسوف. على أن من فعل هذا لم يعد الحق ولم يجانب الصواب. ولئن كانت آراؤه متناثرة في أشعاره ودواوينه فإن القارئ المجتهد قادر على استخلاص مادتها وجمع شتاتها, واستنباط ما اشتملت عليه من مبادئ لمذهب فلسفي محكم دقيق.

ولا بد لي قبل الخوض في فكر المعري من القول بأن فلسفته تمتاز بثلاث خصائص:
أولاها : الشمولية, فهو يتناول كل عناصر الوجود من خالق ومخلوق ومكان وزمان ومادة وروح وديانات وعقائد وغير ذلك.

والثانية : هي المنطقية, فأنت لا تجد في شعره خرقاً للنظام الفكري أو النسق الذهني بل ترى كل شيء يجري وفقاً لفكرة آمن بها وانطلق منها شأنه شأن المهندس القدير الذي أرسى قواعده ثم راح يشيد بناءه يإتقان وإحكام جرياً على حسابات وتقديرات سبق له أن قام بها.

والثالثة : هي الموضوعية, فهو لا يتوخى إلا الحق ولا ينشد إلا الصدق بصرف النظر عن المشاعر والأهواء والقيم السائدة, ولعل هذا ما جر عليه غضب العامة ونقمة رجال الدين وغضب الجهلاء والحاسدين.

وقبل أن نمضي في رحلتنا إلى عالم المعري ينبغي لي أن أحذر السامع وأنبهه على أن عالمه كئيب موحش لا تلوح فيه بارقة أمل , ولو شئنا تحديد ألوانه لقلنا إنها الأسود أو الرمادي أو الأزرق القاتم . وقد يبادر أحدنا فيقول : وما الذي تنتظره من رجل ضرير أخنى عليه الزمان وفجعه ببصره؟؟ أقول : هذا صحيح لولا أن الناس عرفوا أيضاً عمياً أقبلوا على مباهج الحياة وانغمسوا في مسراتها وبشار بن برد خير مثال على ذلك, على أنني أقول : رؤية الفنان هذه قدره لا مناص له منه وأنت لا تستطيع مطالبة الفنان الذي ترعرع في الشقاء وتجرع كؤوس الآلام بنظرة متفائلة كما لا تستطيع مطالبة الفنان الذي تقلب في النعيم أن يكون حزيناً متشائماً, ولئن وجدنا انكساراً لهذا القانون فإن ذلك يرجع إلى ما بين البشر من فروق في الظروف والتكوين الجسدي أوإلى طبيعة الحياة القائمة على التناقض, فقد ينبجس الماء من الصخر, ويشرق النور في قلب الديجور, وقد يكون الضحك تنفيساً عن الألم وترويحاً عن النفس على مبدأ (( الطير يرقص مذبوحاً من الألم)). علينا إذا أن نتقبل نظرة أبي العلاء السوداوية التشاؤمية ونرتضيها خصوصاً إذا أدركنا أنه كان صادقاً مع نفسه.

والآن دعونا نتبين خصائص الفلسفة المعرية في شمولها ومنطقيتها وصدقها. فأنت, في شعره ونثره, ترى الحياة ببعديها المادي والغيبي .. ترى الصحراء بامتدادها الشاسع, ورمالها العطشى, وشموسها المحرقة, وأشواكها ووحوشها وظبائها وإبلها. تسمع فحيح الأفاعي وعواء الذئاب, كما تسمع خبط الإبل وتبصر أسراب الجراد. ثم يصعد بك إلى عالم السماء فترى النجوم والكواكب وزحل والمريخ وسهيلاً والمشتري، وقد يمضي بك إلى البحور الهائجة أو الجبال الشاهقة. وكأنه بذلك يريد أن يقدم إليك خشبة مسرح ( هي الدنيا ) ليضع عليها الإنسان ويحركه فوقها . والإنسان على كل حال هو ملتقى العجائب والغرائب , وما ذلك إلا لأنه حمل الأمانة التي أبى حملها غيره من المخلوقات.







ولكن هذا العالم المادي المحسوس ليس كل الحقيقة, بل ينهض من ورائه عالم أخر أشد أثراً وأكثر خطراً إنه عالم الغيب. وعالم الغيب عند المعري ليس فيه إلا شيء واحد هو الله.وبخلاف كل من اتهم المعري بالإلحاد أقول: إن الله يطل شعره من كل ناحية وأؤكد أنه ما ارتاب أو شك في وجوده قدر ذرة, وقد عثرنا في قصائده على كثير من الأبيات التي يسبح فيها بحمده , ويقر فيها بوحدانيته, حتى إنه في ديوانه (( لزوم ما لا يلزم)) يقول عن قصائده ( فمنها ما هو تمجيد لله الذي شرف عن التمجيد , ووضع المنن في كل جيد , وبعضها تذكير للناسين وتنبيه للرقدة الغافلين). ولعل أبرز صفاته الوجود والاقتدار:

أقر بأن لي رباً قديراً ولا ألقى بدائعه بجحد


كما يعترف بأنه يجهل الحكمة من خلق البشر ولكنه على ثقة بأن هنالك إلهاً قديراً وراء ذلك.
الله صورنـي ولســـــــــــــت بعالم لم ذاك؟ سبحان القدير الواحد فلتشهد الســــــاعات والأنفاس لي أني برئت مـن الغوي الجاحد

وهو رب عظيم جدير بالحمد والثناء, فكل شيء يسبح بحمده حتى العجماوات :

كل يسبح , فافهم التقديس في صوت الغراب وفي صياح الجدجد

وهو عليم خبير لا يعزب عنه مثقال ذرة ولا يخفى عليه شيء من هواجس النفوس:

إذكر إلهك إن هببت من الكــــرى وإذا هممت لهجعة ورقاد
واحذر مجيئك في الحساب بزائف فالله ربـــك أنقــد النقــاد

وهو المنعم المتفضل على عباده سواء أكانوا أهلاً للفضل أم لم يكونوا, وسواء آمنوا به أم كفروا:

تورعوا يا بني حواء عن كذب فمالكم عند رب صاغكم خطر
لم تجدبــوا لقبيح من فعـــالكـم ولم يجئكم- لحسن التوبة- المطر

وكل ما يحرزه المرء في الحياة من نجاح وفوز فإنما هو بفضله ومنّه، لا بسعي الإنسان وجهده:

لم تبلغ الآراب شدة ساعد ما لم يعنها الله بالإسعاد







ونلاحظ- في هذا المجال- أن المعري يقر بوجوده , ويعترف بعظمته , ويشير إلى فضله , ولكنه لا يعترف بعد ذلك بشيء مما يتصل به كالأنبياء والديانات والملائك والجان والظاهر أن الله- عند المعري- خلق الإنسان وزوده بالعقل, وأنعم عليه بالحياة, ولكنه لم يسخر الأنبياء لهدايته وإرشاده, ولا أرسل كتباً سماوية تهديه إلى الحق, وترسم له طريق السعادة . وإذاً فالنبوات والشرائع عنده من صنع البشر, أوجدها رجال أذكياء قصدوا من ورائها تحقيق المصالح.

وحديث المعري عن الإسلام وعن الرسول الكريم يبدو وكأنه حديث رجل موضوعي فهو يعترف بعظمة الإسلام ونبل صاحب الرسالة . ولكنه يبعد نفسه عن الموضوع :

دعاكــــم إلى خير الأمـــور محمــد وليس العوالي في القنا كالسوافل
حداكم على تعظيم من خلق الضحى وشهب الدجى من طالعات وآفل
وألزمكـــم ما لــــــيس يعجز حمـــله أخا الضعف من فرض له ونوافل
وحث على تطهير جســـــم وملـــبس وعاقب في قذف النساء الفواضل
وحــــرم خمراً خلت ألــباب شربــها من الطيش الباب النعام الجوافل
فصلــــى عليه الله ما ذر شـــــــارق وما فت مسكاً ذكره في المحافل




وفضلاً عن الملاحظة السابقة أقول إن المعري يضع بجانب الله سلطة أخرى هي القدر وهذه السلطة تبدو غاشمة ظالمة متحكمة بشؤون البشر, قوتها لا تدفع ولا تغلب ولا ترد ومثل هذا يدفعنا إلى التساؤل : ماذا أراد أبو العلاء بالقدر؟؟ ترى هل القدر والله- عنده- شيء واحد؟ أم أن القدر هو إرادة الله ومشيئته؟ أم أن القدر هو شيء أخر غير الله؟. ثلاثة احتمالات لا يقبلها العقل ولا يسيغها المنطق. فإذا كان القدر هو الله فمعنى ذلك أن الله ظالم غاشم. وإذا كان القدر هو مشيئة الله أو ما كتبه على عباده فمعنى ذلك أن الله كتب الظلم على عباده وحاش له. وإذا كان القدر شيئاً أخر غير الله فمعنى ذلك أن المعري مشرك لأنه يجعل بإزائه شريكاً له يمارس تأثيره في الناس مستقلاً. والحق أن المعري يجعل للقدر سلطاناً قوياً على العباد تتضاءل إلى جانبه سلطة عليهم. فليت شعري هل أراد بالقدر إبليس اللعين أم أراد أن يقول : إن هنالك قوتين تتحكمان في الناس والمخلوقات إحداهما تمثل الخير, والأخرى تمثل الشر أم أن المعري وسم الخالق- في قرارة نفسه بالظلم- فنسب ذلك إلى القدر على سبيل التقية. وهذا أمر مألوف لدى البشر حتى إنهم أحياناً يلعنون الأقدار وينحون عليها باللائمة والذي يبدو لي هو أن المعري مضطرب في هذه الناحية أشد الاضطراب . فهو في بعض الأحيان ينسب الظلم إلى القدر والزمان , كما في قوله :

وهو الزمان قضى بغير تناصف بين الأنام وضاع جهد الجاهد
سهـــد الفتـــى لمطالب ما نالهــــا وأصابها من بات ليس بساهــد

وفي بعض الأحيان ينسب الأمر إليه عز وجل ولكن بنوع من الحذر :

اسكــــت فإن السكـــوت منقبــة تأمن به إنســـها وخابلها
ترضى بحكم القضاء في سخط وهل تحب الظباء حابلها
جبـــــلـــة بالفساد واشجــــــــــة إن لامها المرء لام جابلها


وإيمان المعري بالقدر ناجم عن فلسفته الجبرية, وكم من مرة صرح بأنه على هذا المذهب فالإنسان في رأيه مجبر تحركه الأقدار كالريشة في مهب الريح لا يستطيع إفلاتاً منها , وكل محاولة للنجاة مكتوب لها الإخفاق :
يغدو على درعه الزراد يحكمها وهل ينجيه، مما قُـدّر، الزرد ؟!

كما أن الفساد يعم الدنيا ويشمل كل شيء وذلك بفعل القدر الذي لا يرحم ولا يني في تعذيب المخلوقات. والقضاء على الفساد أو محاولة مكافحته أمران مســـتحيلان, يعجز عنهما الإنســـان كما يعجز الغراب عن التخلص من سواده. والنهر عن تغيير مجراه:

حوتنـــا شرور لاصلاح لمثلهــــا فإن شذ منـا صالح فهو نــــــــادر
وما فسدت أخلاقنـــا باختيارنــــــا ولكــــن لأمـــــــر سببته المقـــادر
وفي الأصل غش و الفروع توابع وكيف وفاء النجــل والأب غادر؟!
إذا اعتلت الأفعال جاءت عليلـــــة كحالاتها أسماؤها والمصـــــــــادر
فقل للغراب الجون إن كان سامعـاً أأنت على تغيير لونـــــــك قادر ؟!

ويلح المعري على أن الإنسان بريء من شروره, وأن القدر هو المسؤول عما هو فيه من عماية وضلال وانجراف وراء الباطل :
وردت إلى دار المصائب مجبراً وأصبحت فيها ليس يعجبني النقل
أعاني شروراً لاقوام بمثلهــــــــا وأدناس طبع لا يهذبه الصقـــــــل

ويرى أن الوجود سجن مظلم قاتم لا يستريح المرء إلا بمغادرته والخروج منه وهذا لا يكون إلا بالموت :
إلام أجر قيود الحيـــــاة ولا بد من فك هذا الإســــار
قدمنا إليها على رغمنـا ونخرج من ضنكها باقتسار

و إذاً فالإنسان مجبر, سواء في مجيئه إلى الدنيا أو خروجه منها, كيف لا يكون ذلك وتحديدالبداية والنهاية يعنيان أن الإنسان مسير إلى أقصى حد شأنه شأن الأنعام. لا يملك اختياراً ولا حرية ولا رأياً. وإنما هو أسير مغلول مقود إلى الشر بأعنة القدر :

ما باختياري ميلادي ولا هرمي ولا حياتي, فهل لي بعد تخيير
ولا إقامـــــة إلا عن يدي قــــــدر ولا مسير إذا لم يقض تيسيــر

على أن المعري يتمرد على هذه الفكرة أي على الحتمية المطلقة والجبرية التامة, لأن مثل هذه الفكرة تقوده إلى الكفر بعدالة الله, وتدعوه من طرف أخر إلى تبرئة المذنب والمخطئ والمسيء. وكيف يلام الإنسان على ذنب فعله مجبراً؟؟
قالت معاشر : كل عاجز ضرع ما للخلائق لا بطء ولا ســــرع
مدبرون فلا عتب إذا خطئــــــوا على المسيء ولا حمد إذا برعوا
وقد وجدت لهذا القول في زمني شــواهداً ونهاني دونــــه الورع

وإذاً فالإيمان بالجبرية المطلقة يقود- كما قدمنا- إلى تبرئة المذنب وإلغاء قيمة الخير فضلاً عن أنه يدعو إلى وسم الخالق بالظلم؛ لذلك يرفض هذه الفكرة ويحاول البحث عن مخرج منها. صحيح أن ما يراه في الحياة الواقعية يشير إلى ذلك. بيد أن هذه الفكرة خطرة, إذ تدعو الإنسان إلى فتح الباب لكل مقصر ومذنب وخاطئ. وإذا كان الأمر كذلك فمعنى ذلك أن دور الشرفاء والخيرين والصالحين هباء وعبث. والظاهر أن المعري بعد أن قال بالجبر شعر بالتناقض الحاد لأن إلهاً ظالماً غاشماً لا رحمة عنده غير جدير بالعبادة وتعالى سبحانه عن أن يكون كذلك فهو عادل رحيم :
أأخشى عذاب الله , والله عادل وقد عشت عيش المستضام المعذب؟؟

ولا يجد أبو العلاء, بعد النظر والتحقيق, إلا أن يعترف بأن هنالك حرية في الوجود، والعقل هو الدليل ؛لأن وجود العقل يقتضي أن الإنسان قادر على البحث والاختيار , ولو كانت الحياة جبراً تاماً لكان وجوده ضرباً من العبث, ولكان البشر بلا عقول أفضل منهم مزودين بها, بيد أن دور العقل محدود أمام دور القدر:
الصمت أولى, وما رجل ممنعة إلا لها بصروف الدهر تعثير
والعقل زين , ولكن فوقــــه قدر فما له في ابتغاء الرزق تأثير

في هذه المرحلة شعر أن العقل شيء عظيم , ولكن القدر المطبق يلغي دوره , ويعطل تأثيره , وما قيمة عقل لا ينفع أو لا يؤثر؟!..
لم يزل أبو العلاء حريصاً على العقل, فهو النعمة الكبرى التي زود الله بها البشر قبل أن يدير لهم ظهره, وهو النبي الذي يرشدهم من دون سائر الأنبياء, ولكن القول بالجبر التام يؤدي إلى تعطيله.. وهنا يجب البحث عن المخرج ؛لأن الأمر لم يعد محتملاً .. فلئن كانت هنالك أقدار كالولادة والموت واللون والشكل والأعصاب والآباء والأجداد. فإن ذلك كله لا يحول دون نشاط العقل, وهكذا يبدأ في خرق جدار الجبرية فاتحاً فيه ثقباً للنور والحرية والحق والخير, وقد صور لنا نفسه وهو في حالة البحث بقوله:
لعــــل نجوم الليل تعمــل فكرهـــــا لتعلم سراً فالعيون سواهـــــــد
خرجت إلى ذي الدار كرهاً ورحلتي غلى غيرها بالرغم والله شاهد
فهـــل أنا فيما بين ذينـــــك مجبـــــر على عمل أم مستطيع فجاهد؟؟

وأحب أن أشد عقول السامعين الأفاضل إلى قوله: " فيما بين ذينك" أي بين الولادة والموت. وإلى قوله: " مستطيع" أي حر/ فاعل / قادر على الاختيار, وإلى قوله " فجاهد" أي معذب. لأن الحرية تعني المسؤولية , والمسؤولية تعني الهم والقلق والخوف كما تعني الالتزام, والالتزام يعني المغامرة أو المخاطرة, والمغامرة تعني الخروج على المألوف , واجتياز المألوف يعني الحياة الإنسانية الكريمة التي يتميز بها الآدمي من البهائم, وهكذا ينبثق النور وتشرق الحياة وتبدأ لحظة العمل الشاق. فليقذف أبو العلاء بنفسه في هذه المغامرة التي قد تكلفه سمعته وربما كلفته حياته. ولكن ينبغي أن نتذكر أن السلاح الأمضى في هذه المغامرة , أو المعركة , إنما هو العقل , والعقل وحده.
أيها الغر قد خصصت بعقل فاسألنـه ؛ فكل عقل نبي

ويسلط أبو العلاء عقله على البشر , فيراهم غارقين في الأوهام, منساقين وراء الشهوات مندفعين إلى اللذات, نابذين عقولهم وراء الظهور , وههنا يبدأ دور الصدق في المواجهة , والإخلاص في البحث عن الحق مهما كان الثمن




ويأخذ المعري في نشر المخازي التي تورط فيها علية القوم, وعلى رأســــــهم رجال الدين وأكثرهم لا يتوخى حقاً, ولا يخشى رباً, وإنما يبحث عن المآرب الخاصة والمصالح الشخصية:
وكلنا قوم سوء لا أخص به بعض الأنام ولكن أجمع الفرقا
إذا كشفت عن الرهبان حالهم فكلهم يتوخى التبر والورقـــــا

وأما الزعماء والرؤساء فإنهم يبحثون عن ملذاتهم وشهواتهم ولا يعبؤون بأمر الرعية:
فشأن ملوكهم عزف ونزف وأصحاب الأمور جباة خرج
وهم زعيمهم إنهاب مـــال حرام النهب أو إجلال فــرج
أفي الدنيا- لحاها الله- حـق فيطلب في حنادسها بسرج ؟

وإذا كانت تلك حال الرؤساء فحال الرعية أسوأ, لأن تدينهم ليس لوجه الله وإنما لوجه الشيطان:
تدين غاويهم حذار أميــــرهم فلما انقضت أيامه ذهب النسك
فأصبح من بعد التمسك بالتقى لأردانه من طيب فاجرة مسـك

وهم سادرون في غيهم مقبلون على ضلالهم, حتى إن المصلحين والمرشدين يئسوا منهم:
كم وعظ الواعظون منا وقام في الأرض أنبياء
فانصرفوا والبــلاء باق ولم يزل داؤك العيــاء

ودأبهم الحسد والغش ولعل البهائم خير منهم, لأنها-ـ على الأقل- لا تحسد بعضها على نعمة يتمتع بها غيرها:
فينا التحاسد معروف فهل حسدت مجترة الإبل أخرى ما لها جرر
نهاك ناهيك عن بيع على غــــرر وأنت كلك- فيما بــان لي- غرر

وهم قصار النظر يتعلقون بالزخارف , يقدرون الغني وإن كان فاسداً , ويحقرون الفقير وإن كان نقياً طاهراً :
أغناهم الله من مال وأفقرهم من الرشاد فما استغنوا بل افتقروا
ويحقرون أخا الإعدام بينهم وإن أفضل منهم للذي احتـــقـــروا

وتراهم يتعلقون بالألقاب ظناًَ منهم أنهم تعلي من شأنهم وتخفي ما فيهم من خزي ومنقصة وغباء:
سمى ابنه أسداً وليس بآمن ذيباً عليه إذا أطل الذيـــــب
والله حق وابـن آدم جاهــل من شأنه التقريظ والتكذيـب

ولئن حباهم الله أجساداً ناعمة, وقامات فارعة, فإن عقولهم سخيفة, ونفوسهم ضعيفة منقادة إلى الرذائل , مجذوبة إلى الشهوات :
يحســن مرأى لبنــــــي آدم وكلـــــهم في الـذوق لا يعذب
ما فيهـــم بر ولا ناســــــــك إلا- إلى نفع له- يجــــــــــذب
أفضل من أفضلهم صخـرة لا تظلــــم الناس ولا تكــذب


وداء التقليد فيهم ظاهر منتشر , فهم يرددون أقوالاً لا يفقهون معناها, ويهزون رؤوساً ليس فيها سوى الجهل والسفاه:
في كل أمرك تقليد رضيت به حتى مقالك : ربي واحد أحد

وقد تعلقوا بالمناصب وأقدموا على الموت في سبيل المراتب, طمعا بما وراءها من مكاسب ومنافع:
تنافس قوم على رتبة كأن الزمان يديـم الرتب
ودنياك غر بها جاهل فتبت على كل حال وتب

وأكتر ما يؤلم أبا العلاء من البشر أنهم يُصمون آذانهم عن سماع الحق, بل يكرهون الحق , ويمقتون من يكشف لهم عيوبهم أو يدلهم على نقائصهم . لذلك يميل إلى الصمت أو الهمس :
يبغون مني معنى لست أحسنه فإن صدقتُ عرتهم أوجه عبس

والمعري في كل ذلك يسدي النصيحة , وهو لا يتعالى ولا يدعي الكمال, و إنما يقول الحقيقة, حتى إنه يبدأ بنفسه:
ولي عمل كجناح الغراب أو جنح لـــيل إذا ما رتب
فإن كان يكتبه كاتــــــــب فقد سود الصبح مما كتب

والظاهر أن المعري لم يلق أذناً تسمع, ولا فؤداً يعي , وشعر كأنه ينادي صخرة فقرر أن يعود من جديد إلى مذهبه في الجبر أي الجبر المطلق. لذلك نراه يصرخ بأعلى صوته:
وجبلة الناس الفساد فضل من يسعى بحكمته إلى تهذيبها

وقرر أن يستسلم فرأى أن الخروج من المعركة أسلم, لذلك قرر الاعتزال. فالدنيا عاهرة فاجرة وأبناؤها على شاكلتها, وخير للمرء أن يقطع أسبابه من أسبابها. ولم يكن هذا القرار بالاعتزال قراراً مرتجلاً بل كان قرار مروى فيه . ويبدو ذلك في رسالته إلى أهل المعرة قبل أن يغادر بغداد. وفيها يقول :
" بسم الله الرحمن الرحيم : هذا كتاب إلى السكن المقيم بالمعرة شملهم الله بالسعادة . من أحمد بن عبد الله بن سليمان خص به من عرفه وداناه. سلم الله الجماعة ولا أسلمها ولم شعثها ولا آلمها. أما الآن فهذه مناجاتي إياهم منصرفي عن العراق مجتمع أهل الجدل وموطن بقية السلف بعد أن قضيت الحداثة فانقضت, وودعت الشبيبة فمضت وحلبت الدهر أشطره , وجربت خيره وشره, فوجدت أوفق ما أصنعه في حياتي عزلة تجعلني من الناس كبارح الأروى من سانح النعام , وما ألوت نفسي نصيحة ولا قصرت في اجتذاب المنفعة إلى حيزي , فأجمعت على ذلك واستخرت الله فيه بعد جلائه على نفر يوثق بخصائلهم, فكلهم رآه حزماً , وعده- إذا تم- رشداً, وهو أمر أسري عليه بليل قضي برقه , وخبت فيه النعامة, ليس بنتيج الساعة ولا بربيب الشهر والسنة , لكنه غذي الحقب القادمة وسليل الفكر الطويل"

ولئن اعتزل المعري البشر وأيس من صلاحهم فقد ظل يرميهم بشواظ من ناره ويسلقهم بألسنة حداد , مستهزئاً بهم وبسخافاتهم ودياناتهم ومعتقداتهم :
عجبت لكسرى وأشياعه وغسل الوجوه بروث البقر
وقول النصارى إله يضام ويظلم حياً ولا ينتصــــــــر
وقوم أتوا من أقاصي البلاد لرمي الجمار ولثم الحجـــر
فيا عجباً من مقالاتــــهـــــم أيعمى عن الحق كل البشر؟؟





وهاجم المتصوفة :

أرى جيل التصوف شر جيل فقل لهـــم وأهون بالحلـــــول
أقال الله حين عبدتمـــــــــوه كلوا أكل البهائم وارقصوا لي

وهاجم المشعوذين الذين لا يتورعون عن تسنم ظهر الدين واتخاذه مطية يخدعون بها الناس :

رويدك قد غررت وأنت حر بصاحب حيلة يعظ النساء
يحرم فيكم الصهباء صبحــاً ويشربها على عمد مســاء
يقول لكم غدوت بلا كســــاء وفي لذاتها رهن الكســــاء
إذا فعل الفتى ما عنه ينهـــى فمن جهتين لا جهة أســاء

وراح يبين للناس أن الدين ليس وعبادات جوفاً وإنما نقاء وطهارة في السلوك والعمل:

ما الصوم جوع يذوب الصائمون له ولا صلاة ولا صـــوف على الجسد
وإنما هو ترك الشر مطرحـــــــــــاً ونفضك الصدر من غل ومن حسد


والدين الحق يسمو على الأهواء والرغبات والنزوات, لأنه خلق قويم وسلوك سديد , وثقة بالله :

سبح وصل وطف بمكة زائرأ سبعين لا سبعاً فلست بناسك
جهل الديانة من إذا عرضت له أطماعه , لم يلف بالمتماسك

والظاهر أن المعري صعّد نقمته على البشر, حتى إنه ازدراهم ورأى الصمت خير دواء لهم وأخذ يؤثر الصمت والسكوت اتقاءً لشرور الناس :

ولما رأيت الجهل في الناس فاشياً تجاهلت حتى ظن أني جاهل
فيا موت زر إن الحياة رخيصـــة ويا نفس جدي إن دهرك هازل
فواعجباً كم يدعي الفضل ناقــــص وواأسفاً كم يظهر النقص كامل

وقرر أن الدنيا دار عذاب وشقاء والموت خير منها , فهي حية رقشاء تلسع أبناءها كل حين , أو هي امرأة سفيهة بعيدة من الطهر, بل بغي تمارس العهر:
تزوج دنياه الغبــــي بجهـــــله فقد نشزت من بعدما قبض المهر
تطهر ببعد من أذاها وكيدهــــا فتلك بغي لا يصح لها طهــــــــر

وهكذا انتهى المعري مرة أخرى إلى تشاؤمية عميقة لا تلوح فيها بارقة من أمل ولا شعاع من رجاء , والموت أرحم منها. فقعد يعد أيامه منتظراً الموت :

بوحدانيــــة العــــــلام دنا فذرني أقطع الأيام وحدي
سألت عن الحقائق كل يوم فما ألفيت إلا حرف جحـد
سوى اني أزول بغير شك ففي أي البلاد يكون لحدي؟؟


وفي الختام أقول : كان أبو العلاء يريد الخير للناس , ويتوخى لهم السعادة , ولكنه فوجئ بعقوقهم وانهماكهم في الشرور، وفضل العزلة على معاشرتهم. ثم وجد أن الموت هو الراحة.

في البداية سل حسام القول :
فمالي لا أقول ولي لسان وقد نطق الزمان بلا لسان
ولكنه في النهاية خرج من المعركة . ولسان حاله يقول :
قد فاضت الدنيا بأنجاسها على براياها وأجناسها

وهكذا سلم الأمر لصاحب الأمر واتجه إلى الله وترك النضال لغيره من المدعين والمزايدين:

لا اخطب الدنيا إلى مالك الد نيا ولكن خطبتي أختها
ما أمّ دفر أمّ طيب , ولـــــو أنك بالعنبر ضخمتهــــا

والخلاصة أن أبا العلاء ابتدأ جبرياً وانتهى جبرياً, وعندما حاول فتح باب الحرية وأعمل العقل وجد أن العقل لا يغير من طبيعة الناس شيئاً , لذلك آثر الانسحاب والعزلة وعاش ينتظر الموت.

ليس هذا كل ما أردت أن أكتبه ولكن ظروفي حالت دون التوسع فيه . فأرجو المعذرة والسلام عليكم.

























المراجع



- لزوم ما لا يلزم - دار صادر بيروت


- - أبو العلاء المعري - عائشة عبد الرحمن ( بنت الشاطئ) وزارة الثقافة سلسلة أعلام العرب عدد (38)

- مع أبي العلاء في سجنه - طه حسين - 1939 القاهرة


تجديد ذكرى أبي العلاء - طه حسين - (ط 6/ 1963) (ط1/ 1914) دار المعارف بالقاهرة

أبو العلاء المعري زوبعة الدهور - 1962 (ط 3/ 1970) دار مارون عبود

تاريخ الفكر العربي إلى أيام ابن خلدون - عمر فروخ- بيروت 1966 دار العلم للملايين









المتنبي بين العبقرية والجنون

بسم الله الرحمن الرحيم

المتنبي بين العبقرية والجنون

د. عبد الرحمن دركزللي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ما اطلع امرؤ على أدب المتنبي إلا أقر له بالعبقرية واعترف له بالنبوغ، أما سر عبقريته ونبوغه فيرجع إلى عدة خصال : الأولى أن المتنبي كان رجلا مرهف الإحســـاس عميق التجربة؛ لذلك انطوى شعره على خلاصة مركزة للتجربة الإنسانية، ولسـنا نجانب الحق إذا قلنا إن الحكمة التى انطوى عليها شعره تؤهله للتربع على عرش الخلود، شأنه شأن شيكسبير عند الإنكليز ، أو غوته عند الألمان، هذا إن لم يكن متفوقا عليهما، وحسبنا دليلا على ما نقول هذه اللآلئ التي ننثرها على مسامع الحاضرين :

ــ إذا أنت أكرمت الكريـــم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيــــم تمردا
ــ ذو العقل يشقى في النعيم بعفله وأخو الجهالة في الشــقاوة ينعم
ــ وإذا كانت النفوس كبـــــــــارا تعبت في مرادها الأجســــــــام
ــ وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ومن لك بالحر الذي يحفظ اليــدا
ــ لولا المشقة ســـاد الناس كلهم الجود يفقـر والإقــــــــدام قتــال
ــ واحتمال الأذى ورؤية جانيــ ـه غذاء تضوى به الأجســـــــام
ــ وللنفس أخلاق تدل على الفتى أكان ســــخاء ما أتى أم تسـاخيــا

وأما الخصلة الثانية فهي أن المتنبي سبق غيره من الشعراء في التعبير عن الشعور القومي، إذ كان عربيا أصيلا شـــــديد الاعتزاز بعروبته، ينفـر من كل ما هو أعجمي، ويتطلع إلى سيادة العنصر العربي، وحسبنا دليلا على ذلك أنه رأى أمته مفككة ممزقة يتحكم بها الأعاجم، فقال:
وإنما الناس بالملوك ، وما تفلـح عرب ملوكها عجــم
لا أدب عندهم ولا حســب ولا عهـود لهم ولا ذمـــــم
وأنت إذا تفرست البيتين، وتدبرت المعنى الذي انطويا عليه رأيت فيهما احتقارا للعجمة ودعوة صريحة إلى الثورة والتمرد.


أما الخصلة الثالثة فهي أنه دعا ــ في شعره ــ إلى المثل العليا ، وحض على مكارم الأخلاق، في زمن انحطت فيه الأخلاق، وتدهورت فيه القيم. وإليكم بعض الأمثلة مصداقا لما نقول:

ـ ذل من يغبـــط الذليــــــــل بعيش رب عيش أخف منــــه الحمــــام
ـ عش عزيزا أو مت وأنت كريــم بيـن طعن القنــــا وخفــــق البنـــود
ـ ولا تحسبن المجد زقـــا وقينــــة فما المجد إلا الســيف والفتكة البكـر
ـ ما الذي عنده تـــدار المنـــــــــايا كالذي عنـــــده تُــــدار الشـــــمول
ـ ومن ينفق الساعات في جمع ماله مخافة فقــــر فالذي فعل الفقــــــــر
ــ ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته ما قاتـه ، وفضول العيش أشــــغال

وفضلا عما تقدم: هناك براعته الفائقة في المديح، ففيه بلغ الغاية التي لا ترام، وهذا سر إعجاب سيف الدولة به وتقريبه له ، وإغداقه عليه:

على قدر أهل العزم تأتـــي العزائم وتأتــــــي على قـدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغـــارها وتصغر في عين العظيــــم العظائم
يكلف ســـــــيف الدولة الجيش همه وقد عجزت عنه الجيوش الخضارم
إذا كان ما تنويـــــــه فعلا مضارعا مضــى قبل أن تلقـى عليه الجوازم


لكل امرئ من دهره ما تعــــــودا وعادة سيف الدولة الطعــن في العــدا
ورب مريـــــد ضره ضر نفســه وهــــاد إليـــه الجيش أهدى وما هدى
هو البحر غص فيه إذا كان راكدا على الدر واحـــذره إذا كان مزبـــــدا
تظل ملوك الأرض خاشـــــعة له تفارقه هلكــى وتلقــــــــاه ســــــــجّـدا
ومستكبر لم يعرف الله ســــــاعة رأى ســـــــيفه في كفــه فتشـــــــــــهدا
تركت السـرى خلفي لمن قل ماله وأنعلت أفراسي بنعمــــــــاك عســـجدا
وقيدت نفســي في ذراك محبــــة ومن وجد الإحســـــــان قيـــدا تـقيـــدا


وقد تفوق في الهجاء فأتى بالمعجزات، ولا سيما في هجاء كافور الإخشيدي:

نامت نواطير مصـر عن ثعالبهــا فقد بشــمن وما تفنى العناقيـــــــد
جود الرجـال من الأيـدي وجودهم من اللسان فلا كانــوا ولا الجـــود
ما يقبض الموت نفسـا من نفوسهم إلا وفي يـده، من نتنــــها، عـــود
صار الخصي إمام الآبقيــن بهــــا فالحر مســــتعبد، والعبـــد معـبود
من علم الأسود المخصي مكرمـة أقومه البيض أم آبــــاؤه الصيــد؟
أم أذنـــــه في يد النخاس داميـــة أم قـــــدره وهو بالفلسين مردود؟
لا تشتر العبـــد إلا والعصـــا معه إن العبيـــــد لأنجــاس منـــاكيــد



أريـك الرضا لو أخفت النفس خافيـــا وما أنا عن نفسي ولا عنك راضيــا
أمينا وإخـــلافــا وغدرا وخســـــــة وجبنا ؟ أشخصا لحت لي أم مخازيا
وتعجبنـــــي رجلاك في النعــل إنني رأيتـــك ذا نعـــــل وإن كنت حافيــا
بمثلــك يـؤتى من بـــــلاد بعيــــــدة ليضحك ربات الحـــــداد البــواكيـــا

على أن ما حظي به المتنبي من شهرة ذائعة ومكانة سامقة ومجد أدبي لا ينبغي أن يحجب عنا حقيقة مؤسفة انتبه إليها بعض الدارسين ، وهي أن الرجل كان مصابا بالبارانويا ( جنون العظمة )، ومنهم كمال حلمي في كتابه " أبو الطيب المتنبي" ص 11، حيث قال:
" يجوز أن يكون ادعاء النبوة نتيجة مرض عصبي أو عيب عقلي عند أبي الطيب المتنبي"


ونحن ههنا سنحاول البحث عن الحقيقة ، وذلك بالوقوف على كنه البارانويا وأعراضها أولا، لنرى هل تنطبق على أبي الطيب، ثم نعمد بعد ذلك إلى إبراز الدلائل وإصدار الأحكام.

أما البارانويا كما جاء في مراجع علم النفس فنوع من المرض العقلي ، يتسم صاحبه بأنه :

1 ــ يغتر بنفسه ويتكبر، ويرى أن الناس جميعا دونه( يزعم بعضهم أنه نبي مرسل أو زعيم ملهم ).
2 ــ يتوهم أن الناس يراقبونه ويتجسسون عليه ويحسدونه ويتربصون به الدوائر.
3 ــ يتذمر من الزمان والدنيا ويعتقد بأنها لم تعطه ما يستحق.
4ــ يعتزل الناس، ويبتعد عنهم، ( قد يدمن السفر والترحال).


أما غرور المتنبي فأمر بيّن لا خفاء فيه، يتجلى في سلوكه وفي شعره على حد سواء. يدل على ذلك أنه:

(1) أراد وهو صغير الاستيلاء على الخلافة : وبغية الوصول إلى ذلك جمع حوله نفرا من البدو، وراح يهاجم بهم أهل المدن ،إلا أن لؤلؤا الغوري أمير حمص قمع ثورته وأخمــدها، وعمـــــــد إلى زجه في غياهب السجن، كانت هذه الحادثة في صباه.

(2) رفض أن ينشد الملوك شعره واقفا، كما رفض أن يقبّل الأرض بين أيديهم، وإن المراجع الأدبيــة تجمع على أن أبا الطيب اشترط على سيف الدولة في أول لقاء لهما ألا ينشـــده الشعر إلا وهو قاعـــــد
وألا يُكلّـف بتقبيل الأرض بين يديه ، وقد قبل سيف الدولة بهذا الشرط.

(3 ) ادعى النبوة، وأكثر الناس على أن لقبه جاءه من جراء ذلك، وإن كانت هنالك نظريات أخرى:

أ ــ يرى بعضهم أن اللقب جاءه لأنه شبه نفسه ــ في شعره ــ بالمسيح و بصالح عليهما السلام.
ــ ما مقامي بأرض نخلة إلا كمقام المسيح بين اليـهــود
ــ أنا في أمة تداركـها اللــــ ـه غريب كصالح في ثمود


ب ــ يرى بعضهم أن اللقب أطلقه الناس عليه، لأنه تبوأ مكانة رفيعة القدر في الشعر، ومن
هؤلاء الطبسي الذي رثاه حين مات، فقال عنه:
كان من نفسه الكبيرة في جيـ ـش ، ومن كبرياه في سلطان
هو في شــــعره نبي ، ولكن ظهرت معجزاته في المعاني

ج ــ وأورد المعري في " رسالة الغفران" خبرا ، وهو أن المتنبي سئل عن حقيقة لقبه، فقال هو من النبـــوة أي المرتفع من الأرض.

ــ كما أورد أيضا خبرا ثانيا، وهو أن ابن معاذ وكان صديقا حميما له ، قال له: والله إنك لشاب
خطير، تصلح لمنادمة ملك كبير، فقال له المتنبي: ويحك ! ما تقول؟ أنا نبي مرسل.. فقال له
ابن معاذ: إلى من ؟ قال : إلى هذه الأمة الضالة المضلة. قال : تفعل ماذا؟ قال : أملأ الأرض
عدلا كما ملئت جورا.

ــ وذكر آخرون أن المتنبي، كان يسمي نفسه " لا " ، و يستخدم عبارة: " لا نبي بعدي " و
يكررها.

ــ وقيل إن المتنبي كان يزعم أنه صاحب معجزات : يحبس المطر ، ويبرئ الجراح.

ــ وزعم بعضهم أن له كلاما حـــــــاول فيه نظم ســور مثل: " والنجم الســـــــيار، والفلك الدوار
إن الكافر لفي أخطار ، امض على سننك ، واقفُ أثر من كان قبلك من المرسلين، فإن الله قامـــع
بك زيغ من ألحد في دينه وضلّ عن سبيله"










ولئن كان تطلعه إلى الخلافة، وادعاؤه النبوة تعبيرا عن طموحه الشـــــديد فإن الغرور يفوح في شعره من كل ناحية ، وهذه طائفة من أقواله ، تعبر عن صلفه وغطرسته:

ــ سيعلم الجمع ممن ضم مجلســـنا بأنني خبر من تســـعى به قـدمُ
ــ أمط عنك تشبيهي بما وكأنـــــــه فما أحد فوقي، ولا أحد مثـــلي
ــ إن أكن معجبا فعجــــب عجيب لم يجد فوق نفســه من مزيــــد
ــ وفؤادي من الملـــــــوك وإن كا ن لســـاني يرى من الشـــعراء
ــ تغرب لا مستعظما غير نفســه ولا قابـــــلا إلا لخالقــه حكمــــا
ولا خائضا إلا ضمير عجـــاجة ولا واجــــدا إلا لمكرمة طعمــا
وإني لمن قــوم كأن نفوســــــهم بها أنف أن تسكن اللحم والعظما

ولو كان المتنبي مصابا بالغرور وحده لهان الخطب لكنه غرور اقترن باحتقار الناس وازدرائهم:

أي محــــل أرتقي أي عظيم أتقـــــي ؟
وكل ما قد خلق اللـــــــــــــه وما لم يخــــــلق
محتقر في همتي كشعرة في مفرقي

وقد جاهر بعداوته للناس، وعبر عن استخفافه بهم وتعاليه عليهم ، فشبه نفسه بالذهب، وشبههم بالتراب:
ودهر ناســـــه ناس صغـار وإن كانت لهم جثث ضخـــام
وما أنا منهم بالعيش فيهــم ولكن معـدن الذهب الرغــــام

ورأى أنهم مجبولون على الظلم والأذى:
ــ والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفــــــة فلعلــة لا يظلــم
ــ كلما أنبت الزمـــــــــان قنـــــاة ركب المرء في القناة سنانـا

ونعتهم بأن وحوش مفترسة يأكل بعضهم بعضا جهارا:
إنما أنفس الأنيس ســــــــباع يتفارســـن جهرة واغتيالا
من أطاق التماس شيء غلابا واغتصابا لم يلتمسـه سؤالا

ولم يكتف بذلك حتى طالب نفسه وطالب غيره بالحذر منهم و استخدام القسوة معهم بدلا من الرحمة:
ــ لا يخدعنــــك من عــــدو دمعــه وارحم شبابك من عدو تـرحـــم
ــ ومن عرف الأيـــام معرفتي بها وبالناس روى رمحه غير راحــم

كما اعتقد أن الناس يحسدونه، ويتمنون زوال نعمته:
ــ ماذا لقيت من الدنيا وأعجبه أني بما أنا شـــاك منه محسـود؟
ــ أزل حسد الحساد عني بكبتهم فأنت الذي صيرتهــم لي حُسـدا


أما ارتيابه بالناس فدلائله في شعره كثيرة، كقوله:
وكن على حذر للناس تضمــره ولا يغرك منهـــم ثغر مبتســـم

وقد أفرط في الشك وأمعن في الارتياب حتى فقد الثقة بالناس جميعا:
ولما صــار ود الناس خبــــا جزيت على ابتسام بابتســـام
وصرت أشك فيمن أصطفيه لعلمـي أنه بعض الأنــــــــام

والمتنبي دائم الشكوى من الزمان أو الدهر، يرى أن الدنيا ظلمته ولم تعطه المكانة التي يستحق:
ــ رماني الدهـــر بالأرزاء حتى فؤادي في غشــــاء من نبــــــال
فصرت إذا أصابتني ســـــهام تكســـرت النصال على النصـال
ــ عرفت نوائب الحدثـــــان حتى لو انتســبت لكنت لها نقيبـــــــا

ولعل خوفه من الناس قاده إلى الترحال والسفر، على أن الأسفار لم تحسّن ظروفه ولم تقل عثرته :
ــ أبدا اقطع البــــلاد ونجمي في نحوس، وهمتي في سعود

إن الأعراض المذكورة آنفا تنطبق على المتنبي كل الانطباق، وتدعونا إلى المزيد من النظر والتــأمل
لذلك سنطرح سؤالا ثانيا هو: ما أسباب البارانويا وهل تنطبق عليه ؟؟

الحق أن علماء النفس يذهبون إلى أن البارانويا تنجم عن علاقة مضطربة بين الشخص وأمه في مرحلة الطفولة، أما فرويد فيرى أنها تنشأ عن الكبت الشديد للأفكار والمشاعر المحظورة اجنماعيا، ولا سيما الجنسية المثلية منها.

أما عن علاقة المتنبي بأمه فمن المؤسف حقا أننا لا نعرف عنها شيئا البتة، وكل ما نعرفه هو أن أمه ماتت وهو صغير جدا لتتركه في كنف جدته، فلعل موتها المبكر كان طعنة نجلاء في حياته، وجرحا نازفا لم يندمل طوال عمره، كأنها بموتها أجرمت في حقه إذ تركته ــ وهو غض غريـــــر ــ عرضة لنوائب الدهر وعوادي الزمان.







وأما المثلية المكبوتة عند المتنبي فأمر نتردد كثيرا في إثباته، وإن كانت هنالك دلائل واهية في شعره تشير إليها، منها :

أ ــ أن المتنبي كان عزهاة عزوفا عن النساء إلى حد ما، وقد صرح هو نفسه بذلك إذ قال:
وللخود مني ســـــــاعة ثم بيننا فلاة إلى غير اللقاء تجـــــاب
وما العشق إلا غــرة وطمـاعة يعرض قلب نفســــه فتصاب

ومما يؤكد كراهيته للنساء أنه، حين تحدث عن الدنيا وغدرها ، شبهها بالنساء:
أبدا تســــــــترد ما تهـب الدنــــ ــيـا ، فيا ليت جودها كان بخــــلا
وهي معشوقة على الغدر لا تحـ ــــفظ عهـــدا ، ولا تتــمم وصــلا
شــــــــــيم الغانيـــات فيها فلا أد ري : لذا أنث اسمها الناس أم لا ؟


ب ــ أن المتنبي في مدحه سيف الدولة كان يجنح في كثير من الأحيان إلى ما يشبه الغزل، كقوله:
ــ وا حر قلبــاه ممن قلبــه شـــــبم ومن بجسمي وحالي عنده ســــقم !..
ــ ما لي أكتم حبا قد برى جســــــدي وتدعــــي حب سيف الدولة الأمم ؟!


ــ فلو كان ما بــــي من حبيــــب مقنــع عذرت ولكن من حبيــب معمـــــم
رمى واتقى رميي ومن دون ما اتقى هوى كاسر كفي وقوسي وأسهمي



والآن ــ وبعد أن عرضنا هذه الآراء والأدلة ــ نطرح على أنفسنا سؤالا ثالثــــــا وأخير،وهو: أيعقل أن يكون شاعر العربية الأكبر مريضا من الناحية النفسية ؟ مصابا بجنون العظمة ؟ أقول طبعا مثل هذا لا يمكن أن يصدق أو يتصور، وكيف يستطيع العربي الذي اعتاد ســـــماع الثناء على المتنبي أن يتقبــــل مثل هذه الأقاويل. إلا أن العجب قد يتقلص إذا أخذنا في الحسبان الأمور التالية:

ــ أن البارانويا نوعان ( والمتنبي كان يعاني النوع الأول )

ــ أن المثلية المكبوتة غير المثلية الصريحة ( والمتنبي عانى النوع الأول ).

ــ أن هنالك شعراء كبارا في العربية كانوا مصابين بالمثلية الصريحة ( أبو نواس مثلا)

ــ أن هنالك عباقرة في سائر الأمم كانوا مصابين بجنون العظمة أيضا :

منهم على سبيل المثال الكاتب الألماني غوتـــــه، وكان يتعرض لنوبات من الجنون، وقد اعترف بها
كما أنه كان معجبا بالمتنبي لأنه امتلك الشـــجاعة و الجرأة على ادعاء النبوة، ولئن كان قد امتنع عن ادعاء النبوة فإنه كان يحوم حولها، والدليل على ذلك أنه تقمص في كتاباته أدوار الأنبياء مثل موسى والمسيح ومحمد عليهم السلام.



ومنهم أيضا الفيلسوف الألماني نيتشة، الذي كان يعاني أيضا هزات نفسية طوال حياته، حتى إنه أصيب في العقد الأخير من حياته بالجنون، ولعل ما يدل على أن فكرة النبوة راودته، كتابه الشهير " هكذا تكلم زرادشت".



ونشير ههنا أيضا إلى الفيلسوف الألماني شوبنهاور الذي كان مصابا بجنون العظمة ، وكان على غرار المتنبي يعتقد أن الناس يتربصون به الدوائر، ويتوهم أن هنالك مؤامرة كونية تحــــاك ضده بغيــة كبح عبقريته ، ولم يكن بوسع أحد أن يمحو هذه الفكرة من عقله. وقد روي عنه أنه عندما بلغ الســـــاـدسة والعشرين جعل يقارن نفسه بالمســــــيح، ويرى أنه مبعوث لهداية البشـــر، وقد صرح بذلك، فقــــال : " يحصل لي ما حصل ليســـــوع الناصري عندما أيقظ حوارييه النائمين. أنا رجـــــل الحقيقة في هذا العالم" وقد عانى شوبنهاور أيضا شعور الاضطهاد، فتوهم أن الناس يريدون القضاء عليه؛ لذلك كان يحمل معه مسدسا باستمرار، ويضع يده على الزناد ، ويفزع لأقل ضجة أو هبـة ريح معتقدا أن هنالك أشــخاصا قادمين لاغتياله، وبلغ من خوفه من البشـر أنه كان إذا أبدع فكرة كتبها بالإغريقية واللاتينية، وخبأها بين صفحات كتبه؛ كيلا تقع عليها عين أحدهم فيسرقها منه.



وكذلك الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو، فقد حام حول ادعاء النبوة حين قال: " لو أردت أن أكون نبيا فمن كان يمنعني ؟" كما كان يحس بالخوف من البشر، ويشك في أقرب المقربين إليه من أصدقائه،
ويروى أنه غير مسكنه عدة مرات خوفا من ملاحقة وهمية.


على أن كل ما قيل عن المتنبي لا يحط من قدره، ولا يقدح في شعره، ولا ينال من عظمته، فهو شاعر العرب الأول والأخير بلا منازع، وسيبقى اسمه خالدا على كر العصور واختلاف الدهور.




















المصـــادر والمــراجع


ــ أيمن محمد زكي العشماوي، قصيدة المديح عند المتنبي، دار النهضة العربية، بيروت 1983م.
ــ البغدادي ( عبد القادر بن عمر) ، خزانة الأدب ، المطبعة السلفية، القاهرة 1348 هـ
ــ بلاشير ، أبو الطيب المتنبي دراسة في التاريخ الأدبي، ترجمة إبراهيم الكيلاني، وزارة
الثقافة والإرشاد القومي، دمشق ، سنة 1975م.
ــ الثعالبي ( عبد الملك ، أبو منصور)، يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر ،تحقيق محيي الدين
عبد الحميد، المكتبة التجارية الكبرى، مصر، سنة 1956م.
ــ طه حسين، مع المتنبي، دار المعارف، القاهرة، سنة 1980م.
ــ عبد الوهاب عزام، ذكرى أبي الطيب بعد ألف عام، دار المعارف، مصر، ط2، سنة ؟
ــ عمر فروخ، تاريخ الأدب العربي ــ الأعصر العباسية، دار العلم للملايين، بيروت 1968م.
ــ فؤاد أفرام البستاني، أبو الطيب المتنبي، المطبعة الكاثوليكية، بيروت 1937م.
ــ المتنبي ( أحمد بن الحسين)، ديوان المتنبي بشرح العكبري، تحقيق الســقا والإبياري والشلبي،
مطبعة البابي الحلبي، القاهرة، ط/2، سنة 1956م.
ــ محمد كمال حلمي، أبو الطيب المتنبي، مطبعة الشباب، القاهرة، سنة 1931م.
ــ محمود محمد شاكر، المتنبــــي ، مطبعة المدنـي ، القاهرة ، سنة ؟
ــ المعري ( أبو العلاء، أحمد بن عبد الله) ، شرح ديوان أبي الطيب المتنبي، معجز أحمد، تحقيق
عبد المجيد دياب ، دار المعارف، مصر ، سنة ؟
ــ ناجي علوش، أبو الطيب المتنبي دراسة في هويته وشعره، دار الرواد، بيروت، سنة 1993م.
ــ يوسف البديعي، الصبح المنبي عن حيثية المتنبي، تحقيق السقا و شتا والزيان، دار المعارف ،
مصـــر ، سنة 1963م.