الجانب الاجتماعي من زبدة الحلب
الجانب الاجتماعي من زبدة الحلب
لمؤلفه ابن العديم
588-660 ه
د عبد الرحمن دركزللي
لمؤلفه ابن العديم
588-660 ه
د عبد الرحمن دركزللي
يلاحظ القارئ المدقق , عند اطلاعه على كتاب (زبدة الحلب) لابن العديم , أن المؤلف يستخدم أسلوب السرد التاريخي على نطاق واسع , ويقدم الأحداث من غير تعليق عليها أو تفسير لها , جريا على عادة القدماء من المؤرخين , ولكنه كان في كثير من الأحيان يقطع السرد التاريخي قطعا مفاجئا , ليسوق خبرا أو حدثا اجتماعيا , وهذا أمر يحمد له , وقد أعجب القدماء بكتابه هيرودوت , وعدوه ـ بحق ـ أبا للتاريخ , لأنه لم يكتف بتدوين الأحداث , بل تجاوز الأوهام السائدة في المجتمع , وهذا ما فعله المؤرخون العرب القدامى , ومنهم صاحبنا ابن العديم.
وقد يتساءل الإنسان عن الغاية التي كانت تكمن وراء إيراد الأخبار الاجتماعية , وعن السر الذي جعل ابن العديم في كثير من المواضع يتوقف عن سرد الأحداث التاريخية توقفا مفاجئا ليسوق الأحداث الاجتماعية؟!..
و أول ما يتبادر إلى الذهن أن ابن العديم كان يشعر في قرارة نفسه بأن السرد التاريخي جاف ممل لذلك حاول أن يطرد الملل عن القارئ , وينفي عنه السآمة , و ذلك بإضفاء شيء من الحيوية على النص , من خلال تقديم الأحداث الاجتماعية بحيث يجعل القارئ مشدودا إليه , مستمتعا بقراءة كتابه.
و ربما كان ابن العديم يدرك أن السرد التاريخي ضرب من التجريد العقلي , يمسخ الواقع, ويحوله إلى معلومات جامدة لا روح فيها , لذلك فإن رواية الأخبار الاجتماعية تمنح النص شيئا من نبض الحياة و حرارة الواقع .
على أن الذي ظهر لنا هو أن ابن العديم بالإضافة إلى ما سبق أن ذكرناه كان
أ) يستخدم الخبر الاجتماعي كبرهان أو دليل على صحة الأحداث التاريخية , فهو عنده بمنزلة الشاهد القوي يدعم به كلامه , ويؤيد به روايته.
ب) وربما كان ابن العديم يحس بأن أحداث التاريخ , إنما هي نتائج لما يجري في الواقع الاقتصادي والاجتماعي , وإذا صح هذا فهو دليل على وعي عميق وفهم صحيح من المؤلف , وفي مرحلة بدائية من مراحل كتابة التاريخ , فكأنه أراد أن يبرز تلك الصلة الوثيقة بين الواقع الاجتماعي والواقع السياسي في تفاعلهما الحي.
****
والحق أن الروايات الاجتماعية التي أوردها المؤلف لم تكن عنده للترويح عن القارئ , ولم تكن محطات يستريح عندها الدارس , وإنما كانت موظفة توظيفا صحيحا ومســـــتخدمة وفقا لمنطق سديد وحســــــاب دقيق , يشهد على ذلك أنها موزعة في تضاعيف الكتاب توزيعا متناسقا بديعا بعيدا عن العفوية والاعتباطية أشد البعد .
****
ولو أن أحدا عمد إلى هذه المادة الاجتماعية وحاول تصنيفها لوجد أنها تدخل تحت واحد من الأصناف التالية:
1) هناك أخبار اجتماعية تعكس لنا الواقع السياسي( المثال عليها خبر عرس قطر الندى).
2) هناك أخبار اجتماعية تعكس لنا المزاج النفسي لشخصية تاريخية بارزة ( مثال ذلك الأخبار المتعلقة بسيف الدولة الحمداني ) .
3) وهناك أخبار اجتماعية تعكس لنا العقلية السائدة للشعب في مرحلة من مراحل التاريخ (مثال ذلك العقلية الغيبية التي كانت تسيطر على الفكر خلال العصر العباسي مثلا ).
والآن دعونا ندرس ـ من خلال الأمثلة ـ هذه الأصناف من الأخبار
الصنف الأول
الأخبار الاجتماعية التي تعكس الواقع السياسي
إن مثال هذا الصنف ذلك الخبر الذي يتحدث عن زفاف قطر الندى ففي سنة 279 يموت المعتمد , ويتولى ( المعتضد ) الخلافة , وينتهز (خمارويه) هذه المناسبة فيبايعه , ويخطب له على المنابر, ويسير إليه هدية سنية مع (ابن الجصاص) , ويطلب من ابن الجصاص أن يعرض على الخليفة رغبته في تزويج ابنته (قطر الندى) من (علي) ابنه , فيقول المعتضد : "بل أتزوجها أنا"
****
إن هذا الخبر, الذي يبدو لنا بسيطا ساذجا , يعكس لنا الظروف السياسية التي كانت سائدة في تلك الحقبة (القرن الثالث الهجري) , فالتسلط التركي على الخلافة , وقيام الحركات الاستقلالية , واعتماد النظام الإقطاعي , جعل مركز الخليفة في بغداد ضعيفا مهلهلا شكليا , وهذا يظهر من الوصف الذي أورده ابن العديم لجهاز قطر الندى , فالخليفة يبدو فقيرا بالنسبة إلى خمارويه
يقول النص :"وزفت إلى المعتضد... فقال لأصحابه : أكرموها بشمع العنبر فوجد في خزانة الخليفة أربع شمعات من عنبر في أربعة أتوار فضة " . " فلما كان وقت العشاء جاءت إليه , وقدامها أربعمائة وصيفة , في يد كل واحدة منهن تور ذهب , وفيه شمعة عنبر , فقال المعتضد لأصحابه : أطفئوا شمعنا واسترونا" .
ولا بد لنا من الإشارة ـ ههنا ـ إلى مسألة هامة أخرى , وهي أن الأمير المستقل عن الخلافة العباسية كان ـ برغم قوته العسكرية والماليةـ حريصا على كسب رضا الخليفة , لأن لخليفة يمثل المسلمين , لذلك كان يتقرب إليه بالهدايا الثمينة ويحاول الارتباط به من خلال المصاهرة والزواج , أما الخليفة العباسي فكان يرتضي الزواج من ابنة الأمير المستقل طمعا في المال الذي يفتقر إليه , فالزواج إذا صفقة تجارية ليس إلا. وعندما دخل المعتضد ليطلع على جهاز عروسه (قطر الندى) ويرى خزانتها " وجد معها مئة هاون ذهب في جهازها , وفيه من المنائر والأباريق , وغير ذلك من الآنية الذهب " , فقال " يا أهل مصر ...ما أكثر صفركم ..."
فقال له بعض القوم : يا أمير المؤمنين إنما هو ذهب"
وتظهر لنا روح الجشع والانتهازية واضحة جلية لدى المعتضد في الخبر نفسه , يقول ابن العديم : "وكانت إذا جاءت إليه أكرمها بأن يطرح لها مخدة ..فجاءت إليه يوما, فلم يفعل ما كان يفعله بها , فقالت أعظم الله أجر أمير المؤمنين . قال: "فيمن؟" . قالت : في عبده خمارويه .فقال لها : أو سمعت بموته ؟ قالت: لا , ولكني لما رأيتك قد تركت إكرامي , علمت أنه قد مات أبي".
الصنف الثاني
الأخبار الاجتماعية التي تعكس لنا لمزاج النفسي
لشخصية تاريخية بارزة
كلنا سمع عن سيف الدولة الحمداني , وما كان عليه من الشجاعة النادرة والكرم الشديد , والحفاوة البالغة بالعلماء والأدباء , ومعظمنا قرأ ما قاله المتنبي فيه من المدائح , ولكن الأخبار الاجتماعية الواردة في زبدة الحلب ستهز هذا الانطباع الجميل عنه قليلا , وستخفف من حدة العظمة التي أسبغت عليه .
فسيف الدولة مغرور , يعزل قاضي حلب لأنه لم يترجل له عن جواده " ذلك أن ( ابن ماثل) قاضي حلب, عندما قدم سيف الدولة , خرج مع الناس راكبا ليلقاه ويسلم عليه , فترجل الناس له جميعا , ولم يترجل ابن ماثل له , فاغتاظ سيف الدولة عليه , وعزله , ووضع قاضيا آخر محله , هو (أبو حصين ) " (1/131).
ورأى سيف الدولة مرة في منامه حية تطوق داره . فعظم عليه ذلك , وكان في حمص رجل ضرير من أهل العلم يفسر المنامات , فاستقدمه , فدخل عليه فقال له تفسيره أن الروم تحتوي على دارك . فانزعج سيف الدولة وأمر بطرده وإخراجه بعنف.. وشاءت الأقدار أن يستولي الروم على حلب , وعلى دار سيف الدولة بعد ذلك ... ويلتقي المعبر الضرير بسيف الدولة . فيقول له : ما كان من أمر ذلك المنام الملعن؟!..وهذا طبعا على سبيل الشماتة(1/139).
- وعلى الرغم من عزة سيف الدولة نراه في حضرة أخيه ينقلب إلى شخص في غاية الضعف والمهانة:
- "ففي سنة 347 يقدم(ناصر الدولة) أخو سيف الدولة إلى حلب فلما بلغها تلقاه سيف الدولة على أربعة فراسخ منها , وعندما رآه ترجل له , وأنفق عليه وعلى حاشيته , وقدم لهم من الثياب الفاخرة والجواهر ما قيمته ثلاثمئة آلف دينار, وأجلسه على السرير وجلس دونه , ثم إنه بادر بنفسه لينزع خفيه من رجليه و فمدهما إليه فنزعهما بيده, وصعب على سيف الدولة ذلك , وكان يقدر أنه إذا خفض له نفسه فسوف يرفض ناصر الدولة ذلك , ولكنه لم يفعل ذلك إظهارا لمن حضر انه , وإن ارتفعت حاله , فهو ـ بالنسبة إليه ـ كالولد والتبع"(1/129)
- وسيف الدولة لا يتورع عن أن يأكل مالا ليس من حقه , فهو يعزل القاضي الشريف ابن ماثل ويولي آبا حصين . وكان ظالما , فإذا مات إنسان استولى على تركته وأخذها لسيف الدولة , وقال :"كل من هلك فلسيف الدولة ما ترك وعلى أبي حصين الدرك ". لذلك لا عجب أن يصل سيف الدولة في الغنى والترف والبذخ والسرف إلى أقصى حد. يشهد على ذلك أن ملك الروم حين استولى عل قصر سيف الدولة وجد فيه لسيف الدولة ثلاثمئة وتسعين بدرة دراهم , ووجد له آلفا و أربعمئة بغل , كما وجد له من خزائن السلاح مالا يحصى كثرة وكان قصره بالحلبة آية في الحسن عمل له الأسوار وأجرى من تحته الأنهار وكان نهر قو يق يخرج منه ليصب في المكان المعروف بالفيض , وقد بنى حوله إسطبلات لخيوله ومساكن لحاشيته , وهذا على النقيض مما عهدناه عند الخلفاء والأمراء من ولاة المسلمين .(1/138)
الصنف الثالث من الأخبار الاجتماعية
وهو يعكس العقلية الغيبية التي كانت سائدة لدى الناس
يروي ابن العديم في " زبدة الحلب " كثيرا من الأخبار التي تدل على تغلغل الفكر الغيبي في حياة الناس .
ـ فالدمستق يمتنع عن فتح حلب لأنه رأى في نومه المسيح , يتوعده ويتهدده , ويقول له " لا تحاول أخذ هذه المدينة , وفيها ذلك الساجد على الترس " وعندما سأل الدمستق عنه قال له الناس هو أبو نمير الحلبي الزاهد العابد وقبره بقنسرين(1/175)
ـوقبل أن يقتل المنتصر أباه المتوكل (1/72 ) ظهر في حلب طائر أبيض دون الرخمة وفوق الغراب , فوقع على دلبة , وجعل يصيح " يا معشر الناس . الله الله " فعل ذلك أربعين مرة ثم طار , ثم جاء في اليوم التالي , فصاح أيضا أربعين صوتا , وشهد ذلك خمسمئة إنسان . وكان المنتصر واليا على حلب في ذلك الوقت من قبل أبيه.
ـ وسعد الدولة يصاب بالفالج لأنه أقسم يمينا وحنث بها , يقول ابن العديم " ثم عاد سعد الدولة إلى حلب , فأصابه الفالج في طريقه, وقيل أصابه في طريقه قولنج, فدخل حلب وعولج فبرئ , ثم جامع جارية له ( وهي انفراد وكان يتحظاها ويقدمها على سواها من سرياته وهن أربعمئة جارية) فأصابه الفالج , و استدعى الطبيب , فلما طلب الطبيب يده ليجس نبضه , ناوله اليسرى . فقال الطبيب " اليمين " فقال سعد الدولة : " ما أبقت اليمين يمينا " يشير إلى غدره ونكثه بيمينه التي كان قد حلفها لأصحاب بكجور.(ص 1/180)
وفي عهد معز الدولة وهو ماثل بن صالح بن فرداس , وكان رجلا فاضلا , درت عليه الأرزاق في أيام على الناس , وأحسن السيرة معهم , وجاد بالعطاء لهم (1/262) . يقول ابن العديم " وظهر في أيامه ببعلبك رأس يحيى بن زكريا في حجر منقور , فنقل إلى حمص ثم إلى حلب , فوضع بمقام إبراهيم بقلعة حلب سنة 435 هـ .
وهكذا فإن الأخبار الاجتماعية ... كانت لدى ابن العديم ذات وظيفة , فهي وسيلة للتوضيح والتفسير والتعليل , وهي وسيلة للكشف عن جوانب خفية , وهي أيضا وسيلة لطرد الملل وبث الحيوية في النصوص التاريخية التي تعتمد على السرد البارد الجاف .
التسميات: زبدة الحلب دركزللي