عبد الرحمن دركزللي

صورتي
الاسم:
الموقع: Al Ain, Abu Dhabi, United Arab Emirates

الجمعة، نوفمبر 10، 2006

الجانب الاجتماعي من زبدة الحلب

الجانب الاجتماعي من زبدة الحلب
لمؤلفه ابن العديم
588-660 ه
د عبد الرحمن دركزللي

يلاحظ القارئ المدقق , عند اطلاعه على كتاب (زبدة الحلب) لابن العديم , أن المؤلف يستخدم أسلوب السرد التاريخي على نطاق واسع , ويقدم الأحداث من غير تعليق عليها أو تفسير لها , جريا على عادة القدماء من المؤرخين , ولكنه كان في كثير من الأحيان يقطع السرد التاريخي قطعا مفاجئا , ليسوق خبرا أو حدثا اجتماعيا , وهذا أمر يحمد له , وقد أعجب القدماء بكتابه هيرودوت , وعدوه ـ بحق ـ أبا للتاريخ , لأنه لم يكتف بتدوين الأحداث , بل تجاوز الأوهام السائدة في المجتمع , وهذا ما فعله المؤرخون العرب القدامى , ومنهم صاحبنا ابن العديم.

وقد يتساءل الإنسان عن الغاية التي كانت تكمن وراء إيراد الأخبار الاجتماعية , وعن السر الذي جعل ابن العديم في كثير من المواضع يتوقف عن سرد الأحداث التاريخية توقفا مفاجئا ليسوق الأحداث الاجتماعية؟!..

و أول ما يتبادر إلى الذهن أن ابن العديم كان يشعر في قرارة نفسه بأن السرد التاريخي جاف ممل لذلك حاول أن يطرد الملل عن القارئ , وينفي عنه السآمة , و ذلك بإضفاء شيء من الحيوية على النص , من خلال تقديم الأحداث الاجتماعية بحيث يجعل القارئ مشدودا إليه , مستمتعا بقراءة كتابه.

و ربما كان ابن العديم يدرك أن السرد التاريخي ضرب من التجريد العقلي , يمسخ الواقع, ويحوله إلى معلومات جامدة لا روح فيها , لذلك فإن رواية الأخبار الاجتماعية تمنح النص شيئا من نبض الحياة و حرارة الواقع .

على أن الذي ظهر لنا هو أن ابن العديم بالإضافة إلى ما سبق أن ذكرناه كان

أ‌) يستخدم الخبر الاجتماعي كبرهان أو دليل على صحة الأحداث التاريخية , فهو عنده بمنزلة الشاهد القوي يدعم به كلامه , ويؤيد به روايته.
ب‌) وربما كان ابن العديم يحس بأن أحداث التاريخ , إنما هي نتائج لما يجري في الواقع الاقتصادي والاجتماعي , وإذا صح هذا فهو دليل على وعي عميق وفهم صحيح من المؤلف , وفي مرحلة بدائية من مراحل كتابة التاريخ , فكأنه أراد أن يبرز تلك الصلة الوثيقة بين الواقع الاجتماعي والواقع السياسي في تفاعلهما الحي.
****

والحق أن الروايات الاجتماعية التي أوردها المؤلف لم تكن عنده للترويح عن القارئ , ولم تكن محطات يستريح عندها الدارس , وإنما كانت موظفة توظيفا صحيحا ومســـــتخدمة وفقا لمنطق سديد وحســــــاب دقيق , يشهد على ذلك أنها موزعة في تضاعيف الكتاب توزيعا متناسقا بديعا بعيدا عن العفوية والاعتباطية أشد البعد .
****

ولو أن أحدا عمد إلى هذه المادة الاجتماعية وحاول تصنيفها لوجد أنها تدخل تحت واحد من الأصناف التالية:
1) هناك أخبار اجتماعية تعكس لنا الواقع السياسي( المثال عليها خبر عرس قطر الندى).
2) هناك أخبار اجتماعية تعكس لنا المزاج النفسي لشخصية تاريخية بارزة ( مثال ذلك الأخبار المتعلقة بسيف الدولة الحمداني ) .
3) وهناك أخبار اجتماعية تعكس لنا العقلية السائدة للشعب في مرحلة من مراحل التاريخ (مثال ذلك العقلية الغيبية التي كانت تسيطر على الفكر خلال العصر العباسي مثلا ).



والآن دعونا ندرس ـ من خلال الأمثلة ـ هذه الأصناف من الأخبار

الصنف الأول
الأخبار الاجتماعية التي تعكس الواقع السياسي
إن مثال هذا الصنف ذلك الخبر الذي يتحدث عن زفاف قطر الندى ففي سنة 279 يموت المعتمد , ويتولى ( المعتضد ) الخلافة , وينتهز (خمارويه) هذه المناسبة فيبايعه , ويخطب له على المنابر, ويسير إليه هدية سنية مع (ابن الجصاص) , ويطلب من ابن الجصاص أن يعرض على الخليفة رغبته في تزويج ابنته (قطر الندى) من (علي) ابنه , فيقول المعتضد : "بل أتزوجها أنا"
****
إن هذا الخبر, الذي يبدو لنا بسيطا ساذجا , يعكس لنا الظروف السياسية التي كانت سائدة في تلك الحقبة (القرن الثالث الهجري) , فالتسلط التركي على الخلافة , وقيام الحركات الاستقلالية , واعتماد النظام الإقطاعي , جعل مركز الخليفة في بغداد ضعيفا مهلهلا شكليا , وهذا يظهر من الوصف الذي أورده ابن العديم لجهاز قطر الندى , فالخليفة يبدو فقيرا بالنسبة إلى خمارويه
يقول النص :"وزفت إلى المعتضد... فقال لأصحابه : أكرموها بشمع العنبر فوجد في خزانة الخليفة أربع شمعات من عنبر في أربعة أتوار فضة " . " فلما كان وقت العشاء جاءت إليه , وقدامها أربعمائة وصيفة , في يد كل واحدة منهن تور ذهب , وفيه شمعة عنبر , فقال المعتضد لأصحابه : أطفئوا شمعنا واسترونا" .
ولا بد لنا من الإشارة ـ ههنا ـ إلى مسألة هامة أخرى , وهي أن الأمير المستقل عن الخلافة العباسية كان ـ برغم قوته العسكرية والماليةـ حريصا على كسب رضا الخليفة , لأن لخليفة يمثل المسلمين , لذلك كان يتقرب إليه بالهدايا الثمينة ويحاول الارتباط به من خلال المصاهرة والزواج , أما الخليفة العباسي فكان يرتضي الزواج من ابنة الأمير المستقل طمعا في المال الذي يفتقر إليه , فالزواج إذا صفقة تجارية ليس إلا. وعندما دخل المعتضد ليطلع على جهاز عروسه (قطر الندى) ويرى خزانتها " وجد معها مئة هاون ذهب في جهازها , وفيه من المنائر والأباريق , وغير ذلك من الآنية الذهب " , فقال " يا أهل مصر ...ما أكثر صفركم ..."
فقال له بعض القوم : يا أمير المؤمنين إنما هو ذهب"
وتظهر لنا روح الجشع والانتهازية واضحة جلية لدى المعتضد في الخبر نفسه , يقول ابن العديم : "وكانت إذا جاءت إليه أكرمها بأن يطرح لها مخدة ..فجاءت إليه يوما, فلم يفعل ما كان يفعله بها , فقالت أعظم الله أجر أمير المؤمنين . قال: "فيمن؟" . قالت : في عبده خمارويه .فقال لها : أو سمعت بموته ؟ قالت: لا , ولكني لما رأيتك قد تركت إكرامي , علمت أنه قد مات أبي".






الصنف الثاني
الأخبار الاجتماعية التي تعكس لنا لمزاج النفسي
لشخصية تاريخية بارزة
كلنا سمع عن سيف الدولة الحمداني , وما كان عليه من الشجاعة النادرة والكرم الشديد , والحفاوة البالغة بالعلماء والأدباء , ومعظمنا قرأ ما قاله المتنبي فيه من المدائح , ولكن الأخبار الاجتماعية الواردة في زبدة الحلب ستهز هذا الانطباع الجميل عنه قليلا , وستخفف من حدة العظمة التي أسبغت عليه .
فسيف الدولة مغرور , يعزل قاضي حلب لأنه لم يترجل له عن جواده " ذلك أن ( ابن ماثل) قاضي حلب, عندما قدم سيف الدولة , خرج مع الناس راكبا ليلقاه ويسلم عليه , فترجل الناس له جميعا , ولم يترجل ابن ماثل له , فاغتاظ سيف الدولة عليه , وعزله , ووضع قاضيا آخر محله , هو (أبو حصين ) " (1/131).
ورأى سيف الدولة مرة في منامه حية تطوق داره . فعظم عليه ذلك , وكان في حمص رجل ضرير من أهل العلم يفسر المنامات , فاستقدمه , فدخل عليه فقال له تفسيره أن الروم تحتوي على دارك . فانزعج سيف الدولة وأمر بطرده وإخراجه بعنف.. وشاءت الأقدار أن يستولي الروم على حلب , وعلى دار سيف الدولة بعد ذلك ... ويلتقي المعبر الضرير بسيف الدولة . فيقول له : ما كان من أمر ذلك المنام الملعن؟!..وهذا طبعا على سبيل الشماتة(1/139).
- وعلى الرغم من عزة سيف الدولة نراه في حضرة أخيه ينقلب إلى شخص في غاية الضعف والمهانة:
- "ففي سنة 347 يقدم(ناصر الدولة) أخو سيف الدولة إلى حلب فلما بلغها تلقاه سيف الدولة على أربعة فراسخ منها , وعندما رآه ترجل له , وأنفق عليه وعلى حاشيته , وقدم لهم من الثياب الفاخرة والجواهر ما قيمته ثلاثمئة آلف دينار, وأجلسه على السرير وجلس دونه , ثم إنه بادر بنفسه لينزع خفيه من رجليه و فمدهما إليه فنزعهما بيده, وصعب على سيف الدولة ذلك , وكان يقدر أنه إذا خفض له نفسه فسوف يرفض ناصر الدولة ذلك , ولكنه لم يفعل ذلك إظهارا لمن حضر انه , وإن ارتفعت حاله , فهو ـ بالنسبة إليه ـ كالولد والتبع"(1/129)
- وسيف الدولة لا يتورع عن أن يأكل مالا ليس من حقه , فهو يعزل القاضي الشريف ابن ماثل ويولي آبا حصين . وكان ظالما , فإذا مات إنسان استولى على تركته وأخذها لسيف الدولة , وقال :"كل من هلك فلسيف الدولة ما ترك وعلى أبي حصين الدرك ". لذلك لا عجب أن يصل سيف الدولة في الغنى والترف والبذخ والسرف إلى أقصى حد. يشهد على ذلك أن ملك الروم حين استولى عل قصر سيف الدولة وجد فيه لسيف الدولة ثلاثمئة وتسعين بدرة دراهم , ووجد له آلفا و أربعمئة بغل , كما وجد له من خزائن السلاح مالا يحصى كثرة وكان قصره بالحلبة آية في الحسن عمل له الأسوار وأجرى من تحته الأنهار وكان نهر قو يق يخرج منه ليصب في المكان المعروف بالفيض , وقد بنى حوله إسطبلات لخيوله ومساكن لحاشيته , وهذا على النقيض مما عهدناه عند الخلفاء والأمراء من ولاة المسلمين .(1/138)








الصنف الثالث من الأخبار الاجتماعية
وهو يعكس العقلية الغيبية التي كانت سائدة لدى الناس
يروي ابن العديم في " زبدة الحلب " كثيرا من الأخبار التي تدل على تغلغل الفكر الغيبي في حياة الناس .
ـ فالدمستق يمتنع عن فتح حلب لأنه رأى في نومه المسيح , يتوعده ويتهدده , ويقول له " لا تحاول أخذ هذه المدينة , وفيها ذلك الساجد على الترس " وعندما سأل الدمستق عنه قال له الناس هو أبو نمير الحلبي الزاهد العابد وقبره بقنسرين(1/175)
ـوقبل أن يقتل المنتصر أباه المتوكل (1/72 ) ظهر في حلب طائر أبيض دون الرخمة وفوق الغراب , فوقع على دلبة , وجعل يصيح " يا معشر الناس . الله الله " فعل ذلك أربعين مرة ثم طار , ثم جاء في اليوم التالي , فصاح أيضا أربعين صوتا , وشهد ذلك خمسمئة إنسان . وكان المنتصر واليا على حلب في ذلك الوقت من قبل أبيه.
ـ وسعد الدولة يصاب بالفالج لأنه أقسم يمينا وحنث بها , يقول ابن العديم " ثم عاد سعد الدولة إلى حلب , فأصابه الفالج في طريقه, وقيل أصابه في طريقه قولنج, فدخل حلب وعولج فبرئ , ثم جامع جارية له ( وهي انفراد وكان يتحظاها ويقدمها على سواها من سرياته وهن أربعمئة جارية) فأصابه الفالج , و استدعى الطبيب , فلما طلب الطبيب يده ليجس نبضه , ناوله اليسرى . فقال الطبيب " اليمين " فقال سعد الدولة : " ما أبقت اليمين يمينا " يشير إلى غدره ونكثه بيمينه التي كان قد حلفها لأصحاب بكجور.(ص 1/180)
وفي عهد معز الدولة وهو ماثل بن صالح بن فرداس , وكان رجلا فاضلا , درت عليه الأرزاق في أيام على الناس , وأحسن السيرة معهم , وجاد بالعطاء لهم (1/262) . يقول ابن العديم " وظهر في أيامه ببعلبك رأس يحيى بن زكريا في حجر منقور , فنقل إلى حمص ثم إلى حلب , فوضع بمقام إبراهيم بقلعة حلب سنة 435 هـ .

وهكذا فإن الأخبار الاجتماعية ... كانت لدى ابن العديم ذات وظيفة , فهي وسيلة للتوضيح والتفسير والتعليل , وهي وسيلة للكشف عن جوانب خفية , وهي أيضا وسيلة لطرد الملل وبث الحيوية في النصوص التاريخية التي تعتمد على السرد البارد الجاف .



التسميات:

النزعة المثالية في شعر أبي فراس الحمداني

النزعة المثالية في شعر أبي فراس
د. عبد الرحمن دركزللي


ما قرأ امرؤ شعر أبي فراس إلا أحس بنشوة عارمة تسري في أعماقه, أما سر هذه النشوة فراجع-في المقام الأول- إلى تلك النزعة المثالية التي تشيع في شعره فضلاً عن صدق العاطفة وجودة الصياغة وعفوية التعبير.

وإذا صح ما زعموه من أن الروح كانت ذات يوم في الملأ الأعلى, حيث الكمال والجمال, وأنها هبطت بعد ذلك إلى الأرض, فتلبست بالمادة, ولحقها ما لحقها من أدران الجسد, وأنها قادرة ــ من خلال الفن الأصيل ــ أن ترجع، ولو لحظات ، إلى ذلك العالم البهي السعيد, فإن شعر أبي فراس ينتمي إلى ذلك النمط الأصيل الراقي الذي يحرر النفس من أغلالها, ويطلق الروح من عقالها, ويرتقي بها في معارج الكمال حتى تبلغ أعلى مراتب الشرف والفضيلة, ولقد لمح إلى ذلك أحد النقاد حين وصف شعره بقوله : " لو سمعته الوحش أنست, أو خوطبت به الخرس نطقت, أو استدعيت به الطير نزلت".

ومثالية أبي فراس لا تقتصر على شعره وأدبه, بل تبرز في سلوكه ونمط عيشه؛ فهو من بني حمدان الذين كانوا على حد تعبير الثعالبي-: " ملوكاً وأمراء أوجههم للصباحة، وألسنتهم للفصاحة , وأيديهم للسماحة , وعقولهم للرجاحة" , ثم إنه نشأ وترعرع في كنف ابن عمه سيف الدولة أمير حلب الذي كان " يصطحبه في غزواته , ويصطنعه لنفسه, ويستخلفه في أعماله" , فلا عجب بعدئذ أن يغدو أبو فراس " فرد دهره , وشمس عصره أدباً وفضلاً وكرماً ونبلاً" على أن هذه الظروف ما كانت لتصنع ــ وحدها – شيئاً لو لم توافق منه عقلاً راجحاً، ونفساً أبية, واستعدادا فطريا لتقبل الفضائل واكتساب المعالي.

ومن أبرز الدلائل على ما ذهبنا إليه أن أبا فراس لم ينغمس في حياة الترف والنعيم ولم يجار أبناء الطبقة النبيلة في اقتناص اللذات؛ إذ كان يدرك أن ضريبة الشرف باهظة , وأن المعالي لا تنال إلا بمخالفة الهوى ومجاهدة النفس وكبح الجماح :
لئن خلق الأنام لحسو كاس ومزمار وطنبور وعـود
فلم يخلق بنو حمــــــدان إلا لمجد أو لبأس أو لجــود

كان يشعر في أعماقه أن الحياة ندبته لما هو أعظم من معاقرة الصهباء ومعاشرة النساء وغير ذلك من ضروب اللذات , نعم كان يهفو إلى الحب، ويصبو- بحكم الرجولة- إليه , "لكنه لم يتصاغر أمام المرأة", ولم يدع لها مجالاً لكي تستعبده وتستذله, فهو يرى أن الجري البعيد في مضمار الهوى ضرب من ضروب الضلال:
لقد ضل من تحوي هواه خريدة وقد ذل من تقضي عليه كعاب
ولكننــــي- والحمد لله-ـ حـــــازم أعـــــز إذا ذلت لهـــــن رقــاب
ولا تــــملك الحسناء قلبــــــي كله وإن شـــملتها رقــة وشبــــــاب

والحق أن الحياة لم تتح لأبي فراس مجالاً كي يستمتع بمباهجها , بل تطلبت منه أموراً جليلة كانت هي والمجون على طرفي النقيض, وما يقال عن المرآة يقال أيضاً عن المال الذي يتهافت عليه الناس عادة, وتندقّ في سبيله منهم الأعناق , ذلك أن أبا فراس كان يرى أنه متاع تافه, لا يجوز أن يستعبد الإنسان, وعنده أن الغني الحقيقي إنما هو غني النفس:
إن الغنــــــــي هو الغني بنفــسه ولو أنه عاري المناكب حاف
وتعاف لي طمع الحريص فتوّتـي ومروءتي وقناعــتي وعفافـي

ومما يدل على عفته أنه لم يتخذ الشعر حرفة, ولم يسخر فنه للفوز بالجوائز والظفر بالهبات، وما ذلك إلا لأنه رأى في شعراء عصره تملقاً ومداهمة وتزلفاً, وهي أمور لا تناسب المثالية التي جُبل عليها, فالشاعر الحق ــ عنده ــ هو الذي يمدح الرجل بما فيه, لا طمعاً في ثراء، ولا رغبة في عطاء, وهذا ما يفسر لنا إعراضه عن كتابة قصيدة كاملة لوجه المديح, فإذا مدح اكتفى بإيراد أبيات يسوقها في معرض الفخر بنفسه أو بأسلافه.

وإذا ضربنا صفحاً عن سلوك أبي فراس , وأجلنا النظر في أشعاره وجدنا أن ديوانه معرض للقيم العليا و سفر لمكارم الأخلاق, وهذا يدل على نفس طاهرة زكية, وصدق المثل الحكيم القائل : " وكل إناء بالذي فيه ينضح" ولعل إلحاحه الشديد على مكارم الأخلاق كان ترفعاً منه عن القيم الفاسدة التي سادت عصره, فأبو فراس كان يدرك أن مهمة الأدب , ووظيفة الشعر- في كل مكان وزمان- إنما هي تهذيب النفوس وصقل الطباع وتقويم السلوك, والارتقاء بالإنسان إلى الفضائل, لذلك رأيناه يتغنى ــ دائما ــ بالخلال الشريفة من شجاعة وكرم ونجدة وغير ذلك :
لنا بيت على عُنق الثريا بعيدُ مذاهب الأطناب سام
تظلله الفوارس بالعوالي وتفرشه الولائد بالطعــــام

وهو لا يقتصر على القيم القديمة , بل يتجاوزها إلى القيم الإسلامية كالعدل والرحمة, والإذعان للحق, ونصرة الضعيف, والحفاظ على مال اليتيم:
لست بالمستضيم من هو دوني إعتداءً, ولست بالمستضام
أبذل الحق للخصــــــــوم إذا ما عجزت عنه قدرة الحكــــام

وهو على يقين مطلق أن " الثقة بالله" من أعظم الفضائل التي يتحلى بها الإنسان:
ومن لا يوقيّ اللهُ فهو ممـــــــــزق ومن لا يُعـــزّ اللهُ فهو ذليل
وإن هو لم ينصرك لم تلق ناصـراً وإن جل أنصار ، وعز قبيل
وإن هو لم يدلك فـــــي كـل مســلك ضللت ولو أنّ الســماك دلـيل




بعد أن عرضنا لطرف من القيم العليا والمثل الأخلاقية التي نادى بها أبو فراس, ينبغي لنا أن نشير إلى المصادر التي استقى منها هذه المثالية. وهي-في الحق-ثلاثة:

أولها سجايا أسلافه ومناقب قومه , فهو يرى أنهم معدِن الشرف وليوث الوغى , وأهل الندى , وأن من حقهم عليه أن يقتفي أثارهم ويتقيل خطاهم, ويصون قيمهم, تحقيقاً لما توســـــموه فيه وتوقعوه منه :
تطالبني البيض الصوارم والقنا بما وعدت جديّ فيّ المخايــلُ
وما المرء إلا حيث يجعل نفســه وإني لها فوق السماكينِ جاعل

وأبو فراس شديد الإعجاب بقومه, مفتون بخلالهم الحميدة, وسجاياهم الفاضلة، مأخوذ بأمجاد قبيلته, يرى أنها جمعت المكارم كلها:
أيها المبتغي محل بنـي حمــــ دان مهلا أتبلـــــغ الجوزاء؟!
فضلوا الناس رفعة وســــموا وعلـوهم تكـــــــــرماً ووفــاءً
يا مُجيل الأفكار فيهم إلى كــم تتعب النفس..هل تنال السماء؟!
أسرتي, لا أقول افتخارا, سراة حسبهم ذك مفــــــــخراً وسناء

أما المصدر الثاني لمثالية أبي فراس فهو شخصية ابن عمه سيف الدولة التي هام بها حبا، واتخذها قدوة ، وكان أستاذه في المكارم والمآثر:
وهل عذر وسيف الدين ركني إذا لم أركب الخطط العظاما
وأقــفــــــــــو فعله في كل أمر وأجعل فضلـــــــه أبدا إماما
وقد أصبحت منتســـــــــبا إليه وحسبي أن أكون له غلامــا
أراني كيف تكتسب المعالـــــي وأنشاني فسُدت بهـا الأنامــــا

أما المصدرالثالث فهو حبه لآل البيت؛ وكان يرى فيهم نماذج رفيعة للشرف , ونجوماً مضيئة تسطع في سماء الفضيلة , وأمثلة رائعة للتقى والورع والجهاد في سبيل الله:
لا يغضبون لغير الله إن غضبوا ولا يضيعون حكم الله إن حكموا
ما في ديارهم للخمر معتصِـــــر ولا بيوتُهم بالســــــوء تُــتــهــــم
صلى الإله عليهم أينما ذكــــروا لأنهم للورى كهـــف ومعتصــــم

وهو يصرح بأن القيم التي يحملها, ويعتز بها إنما هي قبس من نورهم، ونفحة من هديهم:
يا رب إني مهتد بهداهــــــم لا أهتـــدي- يوم الهدى- بسواه
أهوى الذي يهوى النبي وأله أبداُ وأشـــنأ كل من يشنـــــــاه

ولا بد لنا من الإشارة أخيراً إلى أن أبا فراس ــ بحكم نزعته المثالية ــ كان يصحح كثيراً من المفاهيم الخاطئة التي تنتشر في الحياة, وتشيع بين الناس ، فالكريم ـ عنده- ليس الذي يجود بماله, وإنما الذي يجود بنفسه، كأنه في هذا ينظر إلى قول الأخر: ( والجودُ بالنفس أقصى غايةِ الجود)
يقول أبو فراس :
وندعو كريماً من يجود بماله ومَن جاد بالنفس النفيسةِ أكرمُ

وإذا أساء إليه صديق لم يقابل إساءته بالإساءة , ولا جفاءه بالجفاء, وإنما لجأ إلى الصفح والغفران:
ما كنت, مذ كنت, إلا طوع خلاني ليست مؤاخذة الإخوان من شاني
يجني الخليل فاستحلي جنايــــــــته حتى أدل على عفوي وإحسانـــي
يجني عليّ وأحنو صادقــــاً أبــــدا لا شيء أحسن من حان على جان

وإذا رأى الناس يفرون من مواجهة الموت , حرصاً على الحياة أو ضنّا بها, بادر إلى تذكيرهم أن العيش الذليل هو الموت الحقيقي, وأن الحياة الحقيقية في الموت الشريف، وأن في سمعة الإنسان العطرة بقاء له وحياة أبدية:

وقال أُُصيحابي : الفرار أو الردى فقلت : هما أمران أحلاهما مُـر
يقولون لي: بعتَ السـلامة بالردى فقلت : أما واللهِ ما نالني خُســر
هو الموت؛ فاختر ما علا بك ذكره فلم يمت الإنســان ما حيي الذكـر

وقد ألح مراراً على هذه الفكرة وعاد إليها في شعره , وكأنه كان يحس أنه سيموت في ساحة الوغى على صهوات الخيل:
وما ذاك بخلا بالحياة وإنهــا لأول مبــــــذول لأول مجــــتـــد
ولكنني أختار موت بني أبي على صهوات الخيل غير موسد
وإني ســــــألقاها , فإما منية هي الظن أو بنيـــــــان عز مؤبّد

رحم الله تلك الروح الطاهرة التي ستظل إلى الأبد , مثالاً للشرف, ونبراساً للفضيلة، ومنهلاً عذباً للقيم العليا والمثل الرفيعة.

التسميات: